فلسطين وتعقيدات الجنائية الدولية
فادي أبوبكر
أكثر من ستة أشهر مضت على إصدار قضاة المحكمة الجنائية الدولية قراراً يؤكد على ولاية المحكمة القضائية على الأراضي الفلسطينية، وهو قرار رأى فيه الفلسطينيون بصيص أمل قد يجعل من محاكمة مجرمي الكيان الإسرائيلي أمراً واقعاً.
وكانت فلسطين قد قدمت ملفات تخص الإستيطان والأسرى والعدوان على غزة عام 2014، وذلك بعد انضمامها رسمياً للجنائية الدولية في الأول من نيسان/ أبريل 2015 . وبحسب بيان المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية، فاتو بنسودا، بخصوص التحقيق في الحالة في فلسطين، فإن “القرار بفتح تحقيق قد أتى بعد دراسة أولية أجراها مكتبها بدقة متناهية واستمرت لما يقرب من خمسة أعوام[1]“، ما يشير إلى أن هذا المسار قد يستغرق وقتاً طويلاً.
يُذكر بأن النطاق الإقليمي لاختصاص المحكمة يمتد ليشمل غزة والضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية، ما قد يعني أن هذا التحقيق وإن أتى ثماره في ردع الكيان الإسرائيلي ومعاقبة مجرميه، فإنه لن يردع الجرائم الإسرائيلية بحق المواطنين الفلسطينيين المتواجدين في الأراضي المحتلة عام 1948، والذين يحملون الجنسية الإسرائيلية، كون الكيان الإسرائيلي لم يصادق على قانون المحكمة الجنائية الدولية، وبالتالي لا يوجد ما يحمله على تنفيذ ما يترتب عليه من التزامات تجاه المحكمة، بحسب قانونها.
ويضاف على هذه التعقيدات التي تكثر تفصيلاتها القانونية ويستطيع تفنيدها المختصين في مجال القانون الدولي، تحديات وعقبات أخرى سياسية، تتمثل أبرزها في التهديد والابتزاز الأميركي الذي وصله أوجهه في عهد الرئيس الأميركي الأسبق دونالد ترمب (2017-2021)، حيث استهدفت إدارته العاملين في الجنائية الدولية، وعلى رأسهم فاتو بنسودا، بفرض عقوبات تضمنت تجميد أرصدتهم في البنوك، ومنع دخولهم إلى الأراضي الأميركية[2].
وعلى الرغم من إصدار الرئيس الأميركي جو بايدن قراراً بتاريخ 2 نيسان/ أبريل 2021 برفع العقوبات السابقة على موظفي وأعضاء الجنائية الدولية، إلا أن إدارته جدّدت معارضتها للجنائية الدولية، كما جاء على لسان وزير الخارجية الاميركي أنتوني بلينكن الذي صرّح بقوله: “أن واشنطن تتخذ هذه الخطوة رغم معارضتها الشديدة لإجراءات الجنائية الدولية بخصوص أفغانستان والأوضاع الفلسطينية، وما زالت تعارض ما تبذله المحكمة من جهود لتأكيد الاختصاص القضائي على الأفراد من الدول غير الأعضاء فيها مثل الولايات المتحدة وإسرائيل” [3].
وتجدر الإشارة إلى أن كثير من دول العالم حاولت جعل المحكمة الجنائية الدولية ذات سلطة عالمية خلال مفاوضات نظام روما، إلى أن فشلت هذه المحاولات والاقتراحات بفعل معارضة الولايات المتحدة الأميركية، والتي أدّت في نهاية المطاف إلى تحديد صلاحيات المحكمة ضمن ظروف محددة، كقبول دولة المتهم بمحاكمته، أو إذا سمحت الدولة التي وقع الجُرم على أراضيها للمحكمة بالنظر في القضية، أو إذا أحيلت القضية للمحكمة من قبل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. حيث تصبّ هذه الظروف إلى حد كبير في مصلحة الولايات المتحدة ودولة الكيان الإسرائيلي، كونهما لم تصادقان على عضوية المحكمة، إضافة إلى حق النقض (الفيتو) التي تملكه الأولى في مجلس الأمن.
أما ألمانيا، فقد عبّر عن موقفها الرئيس الألماني فرانك-فالتر شتاينماير، الذي صرّح في حديث لصحيفة “هآرتس” الإسرائيلية على هامش زيارة رسمية إلى الكيان الإسرائيلي أواخر حزيران/ يونيو 2021، بقوله” أن محكمة الجنايات الدولية، ليس لها اختصاص في هذا الموضوع بسبب غياب الدولة الفلسطينية[4]“. ويأتي هذا الموقف ليضاعف الضغوط على الجنائية الدولية ، خاصةً وأن 40% من تمويل المحكمة الدولية تتبرع به ألمانيا.
نستخلص مما سبق، أن قرار الجنائية الدولية بخصوص الحالة الفلسطينية، يؤكد من جديد بأن الموقف الأميركي ديمقراطياً كان أم جهورياً، لهو ثابت وراسخ تجاه دعم وحماية الكيان الإسرائيلي. كما أظهر القرار انفصام الشخصية السياسة لعدد من الدول وعلى رأسها ألمانيا، التي وإن انتقدت الانتهاكات والسياسات الإسرائيلية ( بشكل نادر)، إلا أنها ترفض مبدأ محاكمة الكيان الإسرائيلي.
وبالرغم من العراقيل والمطبات الكثيرة التي تقف في طريق المحكمة، إلا أن فتح باب التحقيق هو انتصار فلسطيني بحد ذاته، يستدعي التفاؤل والصبر والاستمرار في النضال حتى تحقيق المنال، وكما قال مارتن لوثر كينغ “الحق المهزوم مؤقتاً أقوى من شر منتصر”.
كاتب وباحث فلسطيني
fadiabubaker@hotmail.com[1] “Statement of ICC Prosecutor, Fatou Bensouda, respecting an investigation of the Situation in Palestine,” International criminal court,
https://bit.ly/3xRxjsS (accessed Aug.16, 2021).
[2] “جددت رفضها لمحاكمة جنود أميركيين وإسرائيليين.. واشنطن ترفع عقوبات فرضتها إدارة ترامب على الجنائية الدولية، الجزيرة نت،”
https://bit.ly/3m5pvlb ( الدخول بتاريخ أغسطس.16، 2021).
[3] المرجع السابق.
[4] Jonathan Lis, “German President Steinmeier to Haaretz: Concern Over Iran Is Justified,” Haaretz, Jun.30,2021.