«إنّ اليهود خطر على هذه البلاد إذا ما سُمح لهم
بحرية الدخول، إنّهم سيقضون على مؤسّساتنا،
وعلى ذلك لا بدّ من أن يُستبعدوا بنص الدستور».
بنجامين فرانكلين
في القرن الثامن عشر، وقبل ما يقارب المئة سنة من نشوء الحركة الصهيونية الحديثة، كتب بنجامين فرانكلين محذّراً من خطر اليهود على مؤسسات الإتحاد الأميركي الناشئ، ومطالباً تضمين الدستور مادة تحدّ من دخول اليهود إلى الدولة الجديدة. واستشرافه لهذا الخطر تماهى مع استشراف سعاده خطر الهجرة اليهودية الى جنوب سورية، أيّ فلسطين. وهذان الاستشرافان ارتكزا الى قراءة دقيقة للوقائع الإجتماعية التي أرّخت لممارسات اليهود قديماً وحديثاً. فتاريخهم الخيالي الأسطوري القديم المدوّن في التوراة، لم تثبته أية وثيقة تاريخية، وهذا ما حدا بتوماس ل. طومسون، وهو أستاذ علم الآثار في جامعة ميلووكي، إلى القول: «إنّ العهد القديم لم يكن تاريخاً تحوّل الى خيال بل خيالاً تحوّل الى تاريخ». (التاريخ القديم للشعب الإسرائيلي). ومن يقرأ العهد القديم بمعزل عن الإيمان الديني لا بدّ أن يدرك أنّ هذه التعاليم لا تمتّ الى الروحانيات الإنسانية بأية صلة، وهي تجسّد النفسية العنصرية المتعالية الحاقدة المجرمة لهذه القبائل التي أرتضتها لنفسها شريعة خاصة من إله خاص. وبعد هروبهم من فلسطين على أثر احتلالها من الرومان التجأ اليهود الى أوروبا التي، وبسرعة هائلة، خبرت أخلاقهم الفاسدة ونفسيتهم الوضيعة المادية المتكالبة والهادفة الى جمع المال، بغضّ النظر عن الأساليب الملتوية التي درجوا على اتباعها، الى جانب اشمئزاز السلطتين الكنسية والسياسية من شريعتهم التي تفوح منها روائح الإجرام والغدر والاستغلال، فدعتا الى جمع كتابهم الديني وحرقه في الساحات العامة من جهة، وقامت بطرد اليهود من بعض الدول الأوروبية في القرون الوسطى من جهة ثانية، وهذا ما دفعهم الى بدء التخطيط للسيطرة المالية على أوروبا لأنهّم عرفوا أنّ المال هو عصب الحياة الرئيس، ومن يستطع التحكم به يضمن له السيطرة على الساسة مهما كانت أنظمة الحكم. ومن أجل تحقيق هذا الهدف سعى عدد غير قليل منهم، وبتشجيع من حاخاماتهم إلى اعتناق المسيحية تدرّجاً للوصول الى أعلى المراتب، مّما سهّل عليهم بدء عملية تزوير ممنهجة طالت الأناجيل، وذلك بفرض حذف كلّ ما يسيء إليهم بأعين المسيحين. وكان آخر ما توصلوا إليه في العصر الحديث الحصول على براءة من رأس الكنيسة حول علاقتهم بصلب يسوع. وبالرغم من ذلك ظلوا منبوذين من مختلف الشعوب، وهذا ما دفع بهم الى التآمر على معظم أنظمة الحكم في أوروبا، مما دفع هذه الأخيرة الى ملاقاة مطلبهم بإنشاء دولة لهم خارج أوروبا، ظناً منها أنهّا بذلك تخفف من وطأة تسلطهم وتدخلهم في حياتها السياسية والإقتصادية.
وفي غضون ذلك ظهرت بعض الأفكار التي دعت الى ضرورة العودة الى فلسطين وإقامة مملكة إسرائيل الحديثة انطلاقاً من قناعتين: الأولى تتمثّل بشعورهم بالإضطهاد الدائم وأينما تواجدوا مما خلق لديهم حافزاً بضرورة أن يكون لهم دولة تحضنهم ويستطيعون فيها ممارسة شعائرهم وطقوسهم بحرية، والثانية تتمثل بضرورة تجسيد التعاليم الدينية واقعاً ملموساً، وأهمّ هذه التعاليم تكمن بضرورة العودة الى الأرض التي وعدهم بها إلههم يهوه. من هذه الحركات أذكر حركة دافيد روبين وتلميذه سولومون مولوخ (1501-1532) اللذين حثّا اليهود على ضرورة العودة الى فلسطين وإحياء مملكتهم. وحركة منشه بن إسرائيل (1624-1657) والتي اعتبرت النواة الأولى للحركة الصهيونية والتي ركّزت على استغلال بريطانيا لتحقيق غايتها. ثم جاءت حركة سبتاي زيفي (1626-1676) الذي ادّعى أنّه المسيح المخلّص وسعت الى إنشاء مستعمرات في فلسطين. وفي القرن التاسع عشر قامت عدة حركات بالإتجاه نفسه، لكنّ الحركة الوحيدة التي كتب لها النجاح هي الحركة الصهيونية التي قادها تيودور هرتزل أواخر القرن التاسع عشر والتي استطاعت أن تنتزع وعد بلفور عام 1917 والذي يُعتبر الخطوة العملية الأولى لنجاح الصهيونية على طريق العمل المضطرد والمستمر لإنشاء ما عُرف عام 1948 بــ «إسرائيل».
صحيح أنّ بعض اليهود رفض دعوات الصهيونية الحديثة للعودة الى فلسطين، لكنّ هذا الرفض لم يكن نتيجة عدم قناعتهم بذلك، وإنمّا جاء من منطلقات دينية تقول بأنّ العودة الى فلسطين يجب أن تتمّ مع عودة المسيح المنتظر ونشوب حرب أرمجدون مع الأغيار والإنتصار عليهم، وبذلك تصبح عودتهم الى فلسطين وإقامة المملكة مجدداً تطبيقاً واقعياً لأمر إلهي مزعوم. وتُعتبر اليوم منظمة ناطوري كارتا في الولايات المتحدة (تحديداً نيويورك) والتي تضمّ عشرات الآلاف من الأعضاء والكثير من الحاخامات، هي المنظمة الأكثر تصلباً لغاية اليوم تجاه عدم شرعية وجود دولة «إسرائيل». ويتمّ مؤخراً تداول فيديوات في وسائل التواصل الإجتماعي تظهر حاخاماً ينتمي لهذه المنظمة يهاجم «إسرائيل» ويقول بعدم شرعية وجودها. ويركّز على أنّ اليهود عاشوا بسلام مع العرب لقرون عديدة، ويقترح حلاً لما يُسّمى بالصراع «العربي الإسرائيلي» يرتكز على إصدار قرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة التي أصدرت قرار تقسيم فلسطين، يتمّ فيه التراجع عن قرار التقسيم فتسقط الحجة القانونية لوجود «إسرائيل» وتعود الأرض لتحمل اسمها الحقيقي أي فلسطين، ويُخيّر اليهود الموجودون فيها اليوم بين العودة الى الدول التي هاجروا منها (أوروبا وأميركا وبعض الدول العربية)، وبين البقاء في فلسطين إن سمحت لهم السلطات الفلسطينية بذلك. وهذا ما انطلى على معظم من شاهد هذه الفيديوات وبات يشاركها ظناً منه أنّ هذه الجماعة هي ضدّ الصهيونية وبالتالي ضدّ وجود «إسرائيل» ويجب التعاون معها لمواجهة الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة. وكنت ممن انطلى عليهم هذا الكلام أيضاً، إلى أن بدأت بوضع كتابي الأول (البعد التوراتي للإرهاب الإسرائيلي) فقمت ببحث حول هذه الجماعة فتبّين لي أنّ الخلاف بينها وبين الصهاينة ليس خلافاً عقائدياً أيديولوجياً دينياً كما يقولون، بل هو خلاف على التوقيت فقط، لأنّهم ما زالوا ينتظرون قدوم المسيح المخلّص والإنتصار والسيطرة على كلّ العالم، عندها تصحّ إقامة «مملكة إسرائيل»، ومن ذات المنطلقات الإلهية اليهودية.
وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدلّ على صحة نظرية سعاده التي قالت بأنّ اليهود هم أعداؤنا وليس فقط الصهاينة، وهذا التمييز بين اليهودية والصهيونية هو إحدى الخدع اليهودية لحرف النظر عن خطر اليهود على العالم أجمع. وإذا ما تعالت بعض الأصوات التي تنتقد سياسة «إسرائيل» وأكاذيب ساستها وتزويرهم للحقائق والتاريخ، فهم لا يتعدّون العشرات، وبذلك هم استثناء لا يؤثّر على القاعدة. ونظرتنا الى هذه القاعدة، أيّ عدم التمييز بين اليهودية والصهيونية، تتغيّر عندما يبدأ اليهود بترك ديانتهم وكلّ ما نتج عنها من مفاهيم عنصرية استعلائية إلغائية، والتبرّؤ منها ومن كلّ مفاعيلها السياسية، وعندما يصبح هؤلاء أكثرية فاعلة قادرة على التغيير، عندها يصبح بالإمكان النظر جدياً بموقفنا. وحده لغاية اليوم البروفسور شلومو ساند، أستاذ التاريخ المعاصر في جامعة تل أبيب، والذي صدر له لغاية اليوم كتابان: اختراع الشعب اليهودي واختراع أرض «إسرائيل»، تجرأ وكتب كتابه الثالث تحت عنوان: كيف لم أعد يهودياً، وإذا ما سلّمنا جدلاً بصدقه الديني والتاريخي بكلّ ما كتب لغاية اليوم، فهل يمكن لشخص يهودي واحد أن يجعلنا ننطلق من فضحه للمزاعم اليهودية الصهيونية، لنقول بضرورة التمييز بين اليهودية والصهيونية؟ إنّ ذلك بعيد كلّ البعد عن المنطق والموضوعية.
وطالما أننّا لا يمكن في يوم من الأيام أن نكون من الواهمين، أو من الذين ينساقون وراء نظريات يطلقها البعض تنفيذاً لغايات محددّة، وطالما أنّ «إسرائيل» تلقى الدعم، الإعلامي منه والمالي والديني والسياسي من معظم يهود العالم، فلا يحاول أحد أن يلقي اللوم علينا لعدم تمييزنا بين اليهودية والصهيونية، فكلاهما وجهان لعملة واحدة، وما من أحد يستطيع إنكار اعتماد الصهيونية على الأساطير التوراتية واعتمادها لغاية اليوم كمحرّض أساس لدعوة اليهود للهجرة الى فلسطين بإعتبارها دولة اليهود في العالم. ولئن اجتمع العالم كلّه لدعم دولة الإحتلال لبقي واجبنا أن نتمسّك بحقنا ونسعى لاكتساب القوة المطلوبة لإحقاق هذا الحق، بدلاً من استمرارنا بالتلهّي عنه فلا ينتج عن ذلك إلاّ إضاعته الحتمية.