جذر مشكلة غزة .. الاحتلال وليس حماس
لم تكن القضية الفلسطينية حاضرة على جدول أعمال دول العالم من جانب، وتحريك ضمير شعوبه من جانب آخر كما هي اليوم ، حتى لدى أكثر الدول عداء للشعب الفلسطيني، ليس لأنها أدركت عدالة تلك القضية، ولكن لأنه لم يكن بمقدورها الصمت وتجاهل حرب الإبادة التي تستهدف أهل غزة أطفالهم قبل كبارهم، المترافق مع تغول جيش الاحتلال وقطعان مستوطنيه في الضفة الغربية التي تجري فيها حرب حقيقية ضد الوجود الفلسطيني، في عملية انكشاف لهذا الكذب والنفاق التي طالما تشدقت به تلك الدول حول حقوق الإنسان والعدالة والمساواة الإنسانية بين الشعوب. وربما لأنها تخشى من ارتدادات هذه العدوانية الصهيونية على الاستقرار في المنطقة والعالم.
وقد بدا لافتا أن العديد من الدول التي بادرت إلى تبني الرواية الصهيونية حول أحداث 7 أكتوبر، وقدمت لها الدعم السياسي والعسكري والمعنوي، اضطرت لوضع مستقبل القطاع على طاولة البحث مترافقا مع حملة الإبادة لأهل غزة التي ينفذها جيش الاحتلال، من موقع رؤية الكيان الصهيوني لمستقبل غزة وأهلها، وهي تتعلق بمن يدير السلطة في قطاع غزة بعد إخراج حماس من المشهد في حال نجح الكيان الصهيوني في ذلك، الذي يجب أن يكون شرطيا لحفظ أمن الكيان كي لا تتكرر مستقبلا أعمال عسكرية معادية للاحتلال مثل عملية طوفان الأقصى، وقد استغل الرئيس الأمريكي محرقة غزة لتكون مدخلا لإعادة إنتاج مشروع بناء "شرق أوسط جديد.. وإعادة تموضع الولايات المتحدة الجيو سياسي في المنطقة لمواجهة تطلعات قوى عالمية كبرى كالصين وروسيا، بزعم "إنهاء الحرب إلى الأبد، وكسر دائرة العنف المتواصل، وبناء شيء أقوى في غزة وفي جميع أنحاء الشرق الأوسط حتى لا يستمر التاريخ في تكرار نفسه".
واعتبر الرئيس الأمريكي يوم السبت 18 نوفمبر في مقال رأي نشرته صحيفة واشنطن بوست أن "حل الدولتين هو السبيل الوحيد لضمان الأمن الطويل الأمد للشعبين الإسرائيلي والفلسطيني، وأنه ينبغي إعادة توحيد غزة والضفة الغربية في ظل هيكل حكم واحد، في نهاية المطاف في ظل سلطة فلسطينية متجددة، في حين يدرك أن الاستيطان قد أنهي حل الدولتين بتواطؤ أمريكي في الأساس.
ومع ذلك لا يجب أن نغفل أن هناك إرادة دولية من القوى العالمية المهيمنة لترتيب وضع غزة بما يكفل أمن الكيان الصهيوني وترويض غزةـ وأول شروط ذلك هو إنهاء حكم حركة حماس الذي جاء عبر انقلاب عسكري في يونيو 2007، نتج عنه تجريف لبنية منظمة التحرير لصالح بنية حكم تابعة لحركة حماس وعلى قياس فكرها. وهذا يعني ضرورة وجود بديل لإدارة القطاع ، ولا يبدو أن السلطة في رام الله مهيأة لذلك، كون السلطة عجزت عن إدارة الضفة لضعفها وهبوط سقفها السياسي والكفاحي، فكيف يمكن أن تدير غزة والضفة هذا أولا ، وثانيا غياب الوحدة بين كافة القوى الفلسطينية على أساس رؤية وطنية سياسية وكفاحية تستجيب لتطلعات الشعب الفلسطيني أينما كان لخطوة ما بعد انتهاء الحرب، حتى لا يبدو من يتسلم إدارة القطاع بمعزل عن الضفة وخارج ولاية منظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني و دون إرادة فلسطينية جامعة ، وكأنه وكيل عن الاحتلال.
لذلك فإننا نعتقد أن خطورة مقاربات تلك الدول هو في التعامل مع قطاع غزة، كإقليم منفصل عن الضفة الذي يفترض أن يشكل معها الدولة الفلسطينية المقترحة. هذا إذا ما اعتبرنا أن كل هذا الحديث الآن هو مجرد عصف فكري ـ مع أن الرئيس الأمريكي قد وضع الخطوط العريضة لمستقبل غزة، مع أننا نعتقد أن هناك عوامل أخرى ستقرر ذلك، وهي طبيعة ميزان القوى بعد انتهاء العمليات العسكرية هذا أولا، وثانيا موقف الكيان الصهيوني، وثالثا الموقف الدولي للدول المهيمنة ورابعا الموقف الفلسطيني وأخيرا الموقف العربي.
وبالطبع كل الأفكار من أجل هندسة وضع غزة في حال هزيمة حماس بما يضعها خارج معادلة الحكم إن لم يكن وجودها العلني الرسمي في غزة، وإن لم يتضح حتى الآن كيف سيجري تنفيذ ذلك على أرض الواقع؟ كون الأمر يتعلق لأسباب موضوعية بحماس التي هي عبارة عن فكر لا يمكن اجتثاثه وفق إرادة هذا الطرف أو ذاك هذا أولا، إضافة إلى أن حماس ثانيا، هي مكون مهم من المجتمع الفلسطيني ولها امتداداتها رأسيا وأفقيا في نسيجه.
ويأتي تأكيد نتنياهو من "أن إسرائيل ستتولى لفترة غير محددة المسؤولية الأمنية الشاملة في غزة" ليكشف أن المسألة لا تتعلق بحماس أو أي قوة فلسطينية، وإنما في ذهنية قادة الكيان وفكرهم الذي ينكر حق الفلسطينيين في الحرية والاستقلال والعودة، من شأنها أن تجعل من مقولة الاستقرار وفق المفهوم الصهيوني والأمريكي هدفا بعيد المنال، لأن تطور الدور الصهيوني من سيطرة غير مباشرة إلى وجود مادي على الأرض في غزة، هو وصفة لتسعير التناقض التناحري بين الكيان الصهيوني وأهل غزة بمستويات مختلفة، بما يصعب معه تطويع الغزيين لشرط الاحتلال أو أي إدارة وصاية تنصب من قبل القوى المعادية للشعب الفلسطيني.
لكن الثابت هنا أنه مع اختلاف منطلق كل طرف في دوافع رؤيته لما بعد الحرب، إلا أن مضمون كل ما يدور، يتعلق بشكل الوصاية على قطاع غزة، وتجاهل إرادة أهله، عبر استغلال ظرف غزة الموضوعي التي تعيش حالة انقسام سياسي وجغرافي عن الضفة منذ عام 2007، نتج عنه وجود سلطتين متناحرتين، عملت كل واحدة منهما على نفي الأخرى وفي كون قطاع غزة محكوم بشرط الجغرافيا التي يملك مفاتيحها الكيان الصهيوني كدولة احتلال الذي يصعب التوقع بأنه سيتنازل عن صلاحياته في السيطرة على كل منافذ القطاع التي ستدخل إليها أو تخرج منها البضائع أو فحص جميع الداخلين والخارجين أو تحرير القطاع من الحصار الاقتصادي المفروض عليه منذ 17 سنة. مهما كان شكل القوة التي ستدير القطاع.
لكن كل هذه المقاربات حول مستقبل غزة تتجاهل أن جذر المشكلة هو الاحتلال لكل فلسطين وفشل اتفاق أوسلو في إنجاز الحل السياسي، وحصر المشكلة في غزة تكذبه وقائع الضفة بما فيها القدس بأهلها وقواها من كل ألوان الطيف الفكري والسياسي التي تعيش حالة اشتباك مستمر مع جيش الاحتلال وقطعان مستوطنيه الذي صادر وجودهم مكنة إقامة دولة فلسطينية واقعيا، ومن ثم يمكن القول إن مشكلة هؤلاء أولا هي في ربط ما جرى بوجود حركة حماس، في حين أن قطاع غزة كان وما يزال عاصمة الثورة الفلسطينية وخزانها البشري قبل وجود حماس، وهي غزة التي تمنى إسحاق رابين رئيس وزراء الكيان الأسبق عام 1992 عندما كانت القيادة الموحدة المشكلة من فصائل منظمة التحرير تقود الانتفاضة أن يستيقظ صباحا ليجد عزة وقد ابتلعها البحر، لأن غزة بشعبها هي الثورة والذاكرة والوعي وإرادة التحرير، ولذلك ستبقى غزة وفية لقدرها في أن تكون قاطرة الثورة والتحرير أيا كانت القوى الفاعلة الموجودة بها.