الحقيقة العارية في غزة... الأسود التي تأكل الخبز (1/4)
ماذا تعني "الحقيقة العارية"؟ أحد الأجوبة نقرأه في كتاب "نقد العقل الكلبي"، لبيتر سلوتردايك، لتظهر بوصفها محركاً لرغبة "تمزق حجاب القناعات، والأكاذيب، والتجريدات من أجل الوصول إلى عمق الأشياء". لكن ما هو العمق الذي نبحث عنه عند الحديث عن قطاع غزة حالياً؟ وما هي الحقيقة "العارية" التي نبحث عنها؟
جزء من هذا الجواب يتجاوز حيوات الغزيين الذين استُشهدوا، وما يحيط بهم من بروباغندا إسرائيليّة تغزو العالم، تصفهم بـ"حيوانات" و"مشاريع إرهابيين"، وغيرهما من الاتهامات، التي ترى فيهم أعداء مُحتملين، بل نتحدث، من دون أي انتقاص من حياة أي غزيّ، عن الأسود.
نقصد بالأسود هنا تلك الموجودة في حديقة حيوان رفح، التي بسبب الحصار لم تعد هناك مياه أو طعام للشرب فيها، والتي قال أحد القيمين عليها، إن الأسود الآن تتبع حمية، إذ تأكل الخبز المبلول بالمياه لعدم توافر اللحوم.
قراءة هذا الخبر العابر تكشف لنا عن طبيعة الاحتلال، الذي لم يتردد في إثباتها، بوصفه يستهدف الحياة، ليس حياة الأفراد فقط بوصفهم ذوي قيمة سياسيّة يحاول تعريتهم منها، بل الحياة بمعناها الواسع، كل ما هو حيّ في غزة تستهدفه إسرائيل، إنساناً كان أم حيواناً، أو حتى مركزاً ثقافياً أو متحفاً كان يوفّر تصوّراً فنياً أو تاريخياً عن حياةٍ ما.
الاحتلال بهذه الصيغة يريد نسف كل احتمالات الحياة، ليس السياسيّة وحسب، بل تلك الطبيعيّة أيضاً. وهنا بالضبط تتضح الحقيقة العاريّة، بصورة الأسد الذي يأكل الخبز، الذي ربما يُحرم منه بشر كي يأكل الحيوان. الاحتلال لا يريد حتى لإنسانية مشاريع القتلى في غزة أن تستمر.
يكشف ما سبق عن تلك "القناعات والأكاذيب"؛ كـ"حق الدفاع عن النفس" و"القضاء على حماس"، وغيرهما من المفاهيم والخطابات التي يُروج لها الاحتلال. صحيح أن فلسطينيي عدة مدن في قطاع غزة يطحنون الأعلاف ويحولونها خبزاً بسبب الحصار والقصف المتواصل الذي لم يُبقِ لهم شيئاً، لكن الحديث عن حديقة الحيوان يكشف بوضوح الحقيقة العارية، تلك التي لا جدال فيها، المُتمثّلة في قتل كل ما هو سياسي (بشر) وغير سياسي (حيوانات).
هذا الاستهداف الذي ترك أسداً في قفص يأكل خبزاً مبتلاً، يكشف أن الاحتلال الإسرائيلي يولّد مفاهيم جديدة للقتل، إذ طرح مصطلح "إبادة المنازل"، ما يكشف عمق استهداف الاحتلال للحياة في قطاع غزة، هو ينفي احتمالاتها، ومحاولات تذليل ما تبقى منها عبر تدمير المكان الآمن؛ المنزل، وإبادته بصورة غير قابلة للإعمار. فالقتل والقصف ما زالا مستمرين، وهذا واحد من المفاهيم التي لا بد من النظر فيها، توليد المصطلح/المفهوم، لا يعني شيئاً أمام استمرار القتل. إدخال كلمة ضمن "المعجم المفاهيمي"، سيعيدنا إلى ذات مشكلة مصطلح "الإبادة الجماعيّة"، وأسئلة من نوع: من يمتلك حق الاتهام؟ ما هي معاييرها؟
الحقيقة العارية لا تقبل التفاوت، هي شديدة الوضوح، خصوصاً أننا حين نتعامل مع الحيوانات/الوحوش التي لا تنتمي إلى السياق السياسيّ، يمكن أن نتخيل سبب إبادة البشر؛ أي تفريغ قطاع غزة وإعادة استيطانه، كما تروج لهذه الفكرة مؤسسات الاستيطان في إسرائيل. أما قتل اللاسياسي، فهو العمق الذي يشار إليه، هو عمق نفي كلّ احتمالات الاستمرار، وتحويل الأرض إلى مساحة غير صالحة لأي "حي". وربما هذا يمثّل ترجمة لحلم إسحق رابين بغَرَق قطاع غزة، أي نفيه كليّا كمساحة مأهولة ليس فقط للفلسطينيين، بل لاحتمالات الحياة بأكملها.
نقدية الحقيقة العارية أنها لا تكشف فقط عن "الحدث" الذي تجلت به، بل عما حولها، وعما في كلّ العالم، هي ذات أثر يعبر اللغات والتأويلات، ليمسّ الجميع، "الجميع" الصامت عما يحدث وراء "مفاهيم وقناعات"، أما "عمق الأشياء"، فما هو، الجواب بسيط، الهوس بقتل الجميع، كل الفلسطينيين أمام أعين العالم الذي يبرر ما يحدث بعبارة شديدة التراجيديّة (والسخرية)، مفادها "في كل حرب ضحايا".