هل كرَّس الغرب لنفسه حق إبادة الآخر؟
تنقل وسائل الإعلام يوميا إلى مشاهدي العالم صورا مروعة، ومشاهد كثيرة عن جرائم الإبادة التي
يقترفها الكيان الصهيوني في قطاع غزة، من قتل المدنيين الأبرياء شيوخا وأطفالا ونساء، وتدمير
المساجد والمدارس والجامعات، وقصف المستشفيات لإخراجها عن الخدمة، وتخريب البنى التحتية
(طرق معبدة، وشبكة الماء والكهرباء، وقنوات الصرف الصحي)، وتجويع السكان، واغتيال
الأطباء والممرضين والصحفيين والقيادات السياسية والمتضامنين الأجانب مع الفلسطينيين، ومنع
عمال الإغاثة من تقديم المساعدة للضحايا، وإغلاق معابر وصول المساعدات الدولية.. إلخ.
خلافا لما نعتقد، وعكس ما يروّجه الغرب عن دفاعه عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، تُعتبر هذه
الجرائم في البنية الإدراكية الحداثية الغربية ممارسة عملية لحق الإنسان الأبيض في إنهاء وجود
الآخر غير الغربي متى يشاء؛ ممارسة بدأت منذ سنة 1492، تاريخ طرد المسلمين من الأندلس،
وترسخت في مرحلة الاستعمار الغربي لباقي شعوب العالم، وازدادت رسوخا في مرحلة ما بعد
الاستعمار، بعد شن التحالف الدولي الحرب على العراق، ما يفسر -في نظرنا- لا مبالاة العالم
الغربي بجرائم الإبادة التي يقترفها الكيان الصهيوني ضد سكان غزة، ويسعى إلى جعلها طبيعية.
يواصل الكيان الصهيوني توظيف هذه التقنيات "الإبادية" لاستدامة وجوده، لأنه يعتقد -من وجهة
نظره العنصرية- بامتلاكه حق الوجود الأصلي
إن هذه المشاهد المروعة التي يتظاهر العالم الغربي المنافق، والمتحيز للكيان، بتصنيفها انتهاكا
لقوانين الحرب، تُعتبر تقنيات حرب "مشروعة" في نظره لتحقيق النصر ضد "الآخر" غير
الغربي: المسلم، والهندي والأفريقي؛ الآخر الذي لا يعترف له الغرب بحق الوجود الأصلي. وتُعبر
هذه الجرائم أيضا عن العقيدة التوتاليتارية للكيان الصهوني تجاه الفلسطينيين.
وحسب حنة أرندت، تتجلى هذه العقيدة في "أن كل شيء يمكن أن يدمر".. وأن "يقضى بالضرورة
على كل أثر مما تعارف الناس على تسميته بالكرامة البشرية"، وأن "نتصرف على أساس نسق
من القيم، مختلف اختلافا جذريا عن كل الأنساق الأخرى". بل يمكن القول إن هذه الجرائم المتواترة
في كل حروب الغرب ضد الآخر، يعتبرها حقا من حقوق الإنسان الأبيض، وذلك ما لا يمكن معرفته
إلا بالنظر في ممارسات الغرب ضد الشعوب المستعمرة.
لقد سبق للدول الغربية التي تدعم إسرائيل استعمال هذه التقنيات الحربية ضد شعوب الدول التي
احتلتها (أمريكا، والجزائر، وجنوب أفريقيا)، أو استعمرتها (في آسيا وأفريقيا)، كما وظفتها في
حروبها العدوانية على العراق واليمن وليبيا وأفغانستان. ويواصل الكيان الصهيوني توظيف هذه
التقنيات "الإبادية" لاستدامة وجوده، لأنه يعتقد -من وجهة نظره العنصرية- بامتلاكه حق الوجود
الأصلي.
وبالمثل، استعملت السلطوية العربية هذه التقنيات ضد شعوبها، وسمح الغرب بذلك، لأنه يعتبر
السلطة التي تمثله -لا الشعب والمعارضة- هي التي تمتلك حق الوجود الأصلي، وهو ما يفسر لماذا
لا يحرك العالم الغربي -ومعه النظام العربي- ساكنا أمام انتهاك كرامة الإنسان الفلسطيني؛
فالاستعمار والاستبداد الداخلي، على ما يبدو ينتظران هزيمة المقاومة الإسلامية في فلسطين، لأنها
تمثل تحديا للهيمنة العالمية والاستبداد الداخلي في المنطقة العربية الإسلامية.
أفضت الحداثة إلى نشأة نموذج الدولة القومية، وسياسات الهوية (القومية والدينية) اللصيقة
بمشروع الحداثة السياسة، كما تبين ذلك حالة الكيان الصهيوني المدافع عن القومية اليهودية، لأن
الحداثة السياسية تقضي بإبادة الهويات الأخرى
وبدخول الحرب على غزة شهرها الحادي عشر، تبين لأحرار العالم أن الكيان الإسرائيلي والعالم
الغربي، نجحا في جعل الإبادة أمرا طبيعيا، ولم يكن هذا الأمر ممكنا دون هذا الاشتراك الثلاثي في
"ثقافة الإبادة" بين الغرب، والكيان الصهيوني، والسلطويات العربية، من جهة، وتوفير الحداثة -
من جهة أخرى- الأسسَ المعرفية والإدراكية للإبادة، باعتبارها شيئا عاديا إن كانت ضد الآخر، لأن
هذا الآخر -بلغة فرانز فانون- لا يملك حق الوجود الأصلي، أو يحتل في هذا العالم مكان اللاوجود،
الذي تستباح فيه الإنسانية.
لقد نجحت الحداثة في "جعل جرائم الإبادة طبيعية ومألوفة" عندما تقترف ضد الآخر، الذي يمكن
أن يكون مسلما أفريقيا أو هنديا أو معارضا سياسيا، لكونها:
أولا: نفت الحداثة صفة الكرامة الإنسانية عن الآخر غير الغربي لأنه "متوحش"، و"بدائي"، وقد
تردد على لسان رئيس وزراء الكيان الصهيوني وقياداته وصفُ الفلسطينيين بالحيوانات البشرية،
والهمجية، ما يبين استناد السلوك الغربي عموما إلى تلك التمثيلات العنصرية المتجذرة في بنية
الفكر الحديث.
يعتبر هذا الفكرُ الآخرَ أقرب إلى عالم الحيوان منه إلى عالم الإنسانية، ويحصر الكرامة للإنسان
الأبيض "المتحضر"؛ الذي يفكر ليثبت حقه في الوجود، خلافا للآخر الذي لا يفكر، و"لا يملك
بالتالي حق الوجود الأصلي"، فألا تفكر -حسب ديكارت- يعني أنك غير موجود وجودا حقيقيا،
ويستتبع ذلك أن لا حق لك في الوجود، ما يمنح الإبادة البعد الإدراكي باعتبارها شيئا عاديا -بل
ضروريا- عندما تقترف ضد الآخر، الذي لا يعدو أن يكون عائقا من عوائق توسع المشروع
الغربي.
ثانيا: أفضت الحداثة إلى نشأة نموذج الدولة القومية، وسياسات الهوية (القومية والدينية) اللصيقة
بمشروع الحداثة السياسة، كما تبين ذلك حالة الكيان الصهيوني المدافع عن القومية اليهودية، لأن
الحداثة السياسية تقضي بإبادة الهويات الأخرى، والفلسطيني هو هذا الآخر المختلف، الذي يهدد
المشروع القومي الصهيوني.
ثالثا: لكون الحداثة فصلت القيم عن الوقائع، وقررت التعامل مع الواقع دون قيود أخلاقية، في
الحرب أو السلم، وسمّت ذلك عقلانية، وهذا ما يفسر أن كل الحروب الحديثة ضد الآخر هي حروب
إبادية، لا تقيدها أية أعراف أو أخلاق، خلافا للحروب التقليدية التي أطرتها الأعراف والعادات.
التقسيم بين الإنسان الغربي "صاحب الكرامة" والآخر "فاقد الكرامة"، هو الذي يفسر الصمت
الدولي -الغربي تحديدا- ضد انتهاكات حقوق الإنسان، وهو الذي يفسر كذلك امتناع الدول الغربية
عن إعلان ما تقوم به إسرائيل إبادةً إنسانية مكتملة الأركان
وفقا للنموذج المعرفي الحداثي، الثاوي خلف مفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان والمساواة، لا
يمكن عد امتهان كرامة الآخر- المسلم والهندي والأفريقي- انتهاكا للكرامة الإنسانية، طالما أن هذا
الآخر غير الأبيض، الذي يندرج في صنف "البدائي" و"المتوحش" و"الحيوان البشري" فاقد
للصفة الإنسانية، والكرامة البشرية. ورسخت الحداثة هذه البنية الإدراكية العنصرية التي تحكم
تعامل الغرب مع باقي الشعوب غير الغربية، ما يفسر عدم اعتراف الدول الاستعمارية بجرائمها
أثناء الاستعمار رغم فظاعتها، وكذلك لامبالاة الغرب -اليوم – بانتهاك حقوق الإنسان التي يقترفها
الكيان الصهيوني ضد الفلسطينيين.
إن ما يبين تأثير البنية الإدراكية الحداثية في علاقة الغرب بالآخر المسلم هو ذلك التماثل في طرق
التعامل بين الآخر والطبيعية. يعتبر الفكر الغربي الآخر غير الأوروبي جزءا من الطبيعة المتوحشة
الهامدة التي يلزم التحكم فيها، وتشكيلها باستمرار بالوسائل ذاتها التي نشكل بها المادة، دون اهتمام
بالآثار المترتبة على ذلك؛ لهذا بطشت الدول الاستعمارية بالشعوب المستعمرة.
وقد طبق الكيان الصهيوني التقنيات ذاتها الموجهة للتحكم في الطبيعية قصد إخضاع الفلسطينيين،
ويبين ذلك نوعية المفردات الموظفة في حربه الإعلامية مثل القضاء على حماس، واقتلاع
الفلسطينيين وتهجيرهم، وتقسيم القطاع بمحور نتساريم للتحكم في السكان، واحتلال محور فيلادلفيا
لإتمام تطويق القطاع.
إن هذا التقسيم بين الإنسان الغربي "صاحب الكرامة" والآخر "فاقد الكرامة"، هو الذي يفسر
الصمت الدولي -الغربي تحديدا- ضد انتهاكات حقوق الإنسان، وهو الذي يفسر كذلك امتناع الدول
الغربية عن إعلان ما تقوم به إسرائيل إبادةً إنسانية مكتملة الأركان. وتفسر سيادة البنية الإدراكية
الحداثية الإبادية لا مبالاة جزء من النخب الفكرية والسياسة في الشرق والغرب بحقوق الشعب
الفلسطيني، ودفاعها عن سرديات الكيان الصهيوني المحتل.
بينت الحرب الإبادية على غزة هذا التقسيم اللامرئي للعالم إلى شعوب غربية تتمتع بحق امتلاك
الحقوق، وشعوب أخرى، لا تملك هذا الحق، وكشفت تحيز النموذج الغربي لحماية الكرامة
الإنسانية ضد الآخر
ويكشف الصمت الدولي عن انتهاك الكرامة قصورَ التصور الغربي في حماية الكرامة الإنسانية
نظريا وعمليا:
نظريا، أقر الغرب معايير خاصة للتعامل مع انتهاك الكرامة الإنسانية، معايير لا تثار إلا عندما
يتعرض الإنسان الغربي للإبادة، بينما يتوقف توظيفها في حالة الآخر (الفلسطيني). إن إقرار العالم
بحالة الإبادة عندما يتعرض لها الآخر يخضع لمعايير غير واضحة، رغم تجريب العدو كل أشكال
الإبادة: القتل، والتدمير، والتجويع، وقطع إمدادات الوقود والماء والكهرباء والمستلزمات الطبية..
إلخ.
عمليا، تعد الحرب الإبادية التي تتعرض لها غزة دليلا على فشل المنظومة الحقوقية الغربية،
والقانون الدولي الإنساني الغربي، في حماية الكرامة الإنسانية، وتبين أيضا أن هذه المنظومة
تحددها بنية إدراكية حداثية خفية، ترى أن الإنسان الغربي الأبيض وحده هو من يملك حق الوجود،
بينما تحتل باقي الشعوب منطقة "اللاوجود"، أي أن وجودها مؤقت، وغير مثير لقضية الواجبات
والحقوق على نحو ما أشار لذلك فراز فانون.
يجعلنا هذا الأمر نفهم سر تأكيد الدول الغربية على حق الكيان الصهيوني في الوجود، دون إشارة
إلى حق مماثل للفلسطينيين، وكذلك تأكيدها على حق هذا الكيان في التزود بالسلاح من دول العالم،
ونزع هذا الحق من الفلسطينيين الذين يقاومون الاستيطان، على نحو ما تبين المراقبة المشددة
على محور فيلادلفيا، ورغبة الكيان الصهيوني في الإبقاء على احتلاله.
بينت الحرب الإبادية على غزة هذا التقسيم اللامرئي للعالم إلى شعوب غربية تتمتع بحق امتلاك
الحقوق، وشعوب أخرى، لا تملك هذا الحق، وكشفت تحيز النموذج الغربي لحماية الكرامة
الإنسانية ضد الآخر؛ لأن الغرب يكرس لنفسه -في الممارسة- حق الإبادة دون قيود.
وفي مواجهة تحيز البنية الإدراكية الحداثية لصالح الكرامة البيضاء، وتكريس الإنسان الغربي
الأبيض لنفسه حق إبادة الآخر، تبقى المقاومة وحدها ما يمكن الشعوب المضطهدة من استعادة
كرامتها الإنسانية، وتفكيك البنية الإدراكية الحداثية العنصرية.