كوميديا “سميرة توفيق” السوداء
مجتمعنا الأردني يتقن فن السخرية حد المبالغة، وهو مشغول هذه الأيام بإبداع عشرات التدوينات
والفيديوهات المتعلقة بالتعديلات الموصوفة “بالكارثية” على المناهج، وهي في الحقيقة ليست
تعديلات، وإنما مناهج جديدة أضيفت إلى سلسلة المناهج الأردنية ضمن إطار خاص بمبحث التربية
الفنية والموسيقية والمسرحية، حيث تم اعتماد هذا الإطار عام 2021 وهو منشور ومعلن على
موقع المركز الوطني لتطوير المناهج.
وحتى لا تتحول نكتة “سميرة توفيق” إلى حراك سياسي واجتماعي، وخطابات على منابر المساجد
وداخل البرلمان، وتحريض اجتماعي مبالغ فيه، لا بد من وضع القضية في إطارها العلمي الصحيح،
كي يكون النقد موضوعيا ومحددا، وأكتب ذلك كوني لست محسوبا على المركز الوطني، ولست
مغرما بتعديلاته التي أجراها على المناهج في السنوات الأخيرة بصورة مبالغ فيها بدافع مواجهة ما
يسمى بظاهرة الإرهاب، ولكن الحق أحق أن يتبع، ووضع الأمور في نصابها الصحيح واجب
شرعي وأخلاقي، وخصوصا إذا تعلّق الأمر بموضوع خطير مثل مناهج التعليم، وبناء قيم الأمة،
التي لا يجوز تداولها في إطار ساخر، أو تحويلها إلى سلسلة من النكات السمجة (أحيانا)،
فالموضوع جاد، ويستحق منا جميعا التوقف لدقائق.
كانت حصة الفن تاريخيا في مدارسنا حصة فراغ في العادة، يتم وضعها في البرنامج نهاية اليوم
الدراسي، وتوزيع نصابها على المعلمين بصرف النظر عن تخصصاتهم، وجاءت فكرة وضع إطار
منهجي لحصة الفن، ومن ثم تأليف مناهج تغطي هذه الحصة خطوة في الاتجاه الصحيح للتعبير عن
الاهتمام بهذا الجانب المهم من بناء شخصية النشء، وتم تأليف مناهج للصفوف من (الأول إلى
الخامس الأساسي) ضمن مبحث بعنوان “مبحث التربية الفنية والموسيقية والمسرحية”، وقمت
شخصيا خلال اليومين السابقين بمراجعة الكتب الخمسة المنشورة، ووجدت أن كل كتاب يتألف من
ثلاثة مسارات: (التربية الفنية، والتربية الموسيقية، والتربية المسرحية) وتوفيرا لوقت القارئ،
فإنني لم أجد أي انتقادات جدّية تتعلق بالتربية الفنية والتربية المسرحية، حيث تضمنت الكتب في
هذين المسارين مواد علمية تتحدث بشكل مبسط حول علوم الرسم والمسرح وأنواعهما، وأعتقد أن
المادة الواردة في هذين المسارين لا تتناقض مع قيم مجتمعنا الأردني المحافظ (ومن شاء الرجوع
إلى الكتب المدرسية الخمسة فهي موجودة على موقع المركز الوطني لتطوير المناهج) على الرابط
التالي:
https://nccd.gov.jo/Ar/Pages/Publications/?MaterialStudy=123&&Grade=
الخلاف إذا يتركز في مسار (التربية الموسيقية)، حيث لدى جزء من مجتمعنا موقف مسبق من
الموسيقى والغناء (وهذا حقهم الشرعي والاعتقادي) ولكن بالمقابل لا يجوز لنا أن نشيطن كل ما
ورد في هذا المسار بسبب صورة لفنانة وردت في الصف الرابع، ففي ظنّي أن نسبة كبيرة من
المادة الواردة في هذا المسار تعتبر مقبولة اجتماعيا (وهو تقدير انطباعي من شخص لم يكن مغرما
يوما بالموسيقى والغناء) مع وجود تحفظات جدّية على بعض ما ورد في هذا المسار، وسأوضح
ذلك من خلال النقاط التالية:
أولا: يغلب على منهاج التربية الموسيقية التعريف بالآلات الموسيقية المختلفة، وشرح للسلم
الموسيقي، وأنواع الأصوات وغيرها، مع ذكر أمثلة وصور توضيحية لأنواع تلك الآلات.
ثانيا: تناول المسار الموسيقي أنماط مختلفة لأنواع الفنون الموسيقية منها الأغاني التراثية،
والوطنية، والدينية، أو مقطوعات عالمية، ولم يتطرق إلى الأغاني العاطفية أو الحديثة وغيرها من
الألوان الفاقعة.
ثالثا: كانت أغلب التعليقات الواردة على وسائل التواصل الاجتماعي تركز على ذكر الفنانة (سميرة
توفيق) و(الفنان الراحل عبدو موسى) وبالمراجعة فقد وردت أسماء هذين الفنانين في سياق إدراج
تعريفي بالفنان عندما يتعلق الأمر باللون الفني الذي يمثله، ولم يقتصر التعريف على هذين الإسمين
فقط، ولكن الكتب الخمسة تناولت بالتعريف واحد وعشرين فنانا عربيا وأردنيا وعالميا وهم على
الترتيب كما يلي: عبدو موسى (الصف الأول ص39)، يوهان شتراوس موسيقي ألماني (الصف
الثاني ص44)، محمد القصبجي موسيقي مصري (الصف الثاني ص44)، فريدريك شوبان
موسيقي بولندي (الثاني ص47)، موزارت موسيقي نمساوي (الثاني ص52)، ابراهيم طوقان
مؤلف نشيد موطني (الثاني ص 60)، الأخوان فليفل ملحنا نشيد موطني (الثاني ص60)، حسن
الفقير عازف ناي (الثالث ص35)، عبد الرزاق الطوباسي عازف العود (الثالث ص35)، أنطونيو
فيفالدي ايطالي (الثالث ص39)، محمد طه عازف الماريمبا (الثالث ص41)، عبد المنعم الرفاعي
مؤلف نشيد العلم (الثالث ص46)، عبد الملك عرفات ملحن نشيد العلم (التالث ص46)، اندريه
سيجوفيا عازف اسباني (الثالث ص49)، أنطون شمعون عازف أردني (الثالث ص49)، توفيق
النمري (الثالث ص55)، ثم جاءت سميرة توفيق (الصف الرابع ص66) ولم يرد في كتاب الصف
الرابع غيرها، غسان ابو حلتم عازف أردني (الخامس ص54)، فادي حتر عازف أردني (الخامس
ص55)، اسماعيل خضر (الخامس ص65)، بتهوفن (الخامس ص66).
رابعا: ما يستحق النقد حقا هنا هو الغموض المحيط بالتطبيقات المرفقة مع المنهاج، حيث ورد
العديد من التمارين التي تطلب من الطلبة أداء أغان معينة، بصورة فردية أو جماعية، وهو ما يمكن
أن يفتح الباب على خلل يحتاج من الوزارة إلى موقف واضح ضمن سياسات وتعليمات محددة
تضمن الحفاظ على القيم.
خامسا: هذا التحليل شمل الصفوف الأساسية من الأول حتى الخامس (وهي المناهج التي أصبحت
جاهزة حتى الآن)، ولم يصل إلى المرحلة الخطرة (مرحلة المراهقة) والتي تحتاج إلى مزيد من
الرقابة والضوابط عند إعداد مناهج تلك المراحل العمرية، وهو الأمر الذي يجب أن يحظى باهتمام
الجميع.
خامسا: أقترح تطبيق مساري التربية الفنية والتربية المسرحية في المرحلة الأولى، وذلك لعدم
حاجة هذين المسارين إلى وجود تجهيزات لوجستية في المدارس، ولأن المنهاج الموضوع مقبول
(في ظني) لجميع الأطراف، أما مسار التربية الموسيقية فيمكن تأجيله (أو جعله اختياري) لحاجته
إلى تجهيزات كثيرة، فضلا عن عدم وجود معلمين مؤهلين لهذا النوع من التعليم (علما بأنه لا يوجد
حتى الآن أي درجات يتم منحها لمادة التربية الفنية بكافة مساراتها، وبالتالي لن يكون النظر إليها
ضمن أدوات تقويم الطالب، وإنما في إطار تطوير مهاراته).
وفي الخلاصة، أعتقد أن رفض كثير من الشخصيات الوازنة في المجتمع لموضوع تدريس التربية
الفنية والموسيقية والمسرحية لم يكن بناء على إطلاع تفصيلي لمحتوى مواد المنهاج، وإنما بسبب
تصدير أسماء بعض الفنانين ليكونوا رموزا وقدوات للطلبة، وهي قضية بحاجة إلى تدقيق من أجل
التمييز بين ما يجوز وما لا يجوز تربويا في هذا السياق، وما هو متوافق أو متناقض مع الإطار
العام للمناهج، والمستند إلى الفلسفة الوطنية للمناهج الأردنية.
وختاما فإنني أوصي النخبة السياسية والعلمية، وخصوصا نواب الحركة الاسلامية، أن لا يجعلوا
من قضية (سميرة توفيق) عنوانا للمرحلة الدقيقية التي نمر بها، وتحويلها إلى أولوية تثير الشارع،
في حين أن الأولى هو المطالبة بالحريات العامة، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، وإشاعة
أجواء الوحدة الوطنية في ظل التهديدات الجدية من العدو الغاصب، والوقوف صفا واحدا خلف
المقاومة التي تدافع عن وجود الأمة، وأخشى أن تكون قصة المناهج ملهاة جديدة تحرف البوصلة
الوطنية عن المعركة الأساسية التي تحن بصددها.. والله المستعان.