فلسفة العطاء
في ظل طغيان النزعة الفردية، وثقافة المصلحة الشخصية، التي تجاوزت المستويات المسموح بها شرعا وعقلا وعرفا ،على المستوى الفردي والجماعي معا، ينبغي على أصحاب الشأن التربوي والثقافي، وكل المؤسسات ذات العلاقة الوثيقة وصاحبة الأثر الكبير في صناعة الثقافة المجتمعية ؛الالتفات إلى إيجاد فلسفة العطاء لدى الناشئة والأجيال القادمة عبر المناهج التعليمية والمواد الثقافية، والأنشطة المختلفة على الصعيد النخبوي والصعيد الجماهيري، من أجل إعادة بناء ثقافة العناية بالمصلحة العامة، وثقافة حراسة الحق العام، وتقديم ذلك على المصلحة الفردية والحق الشخصي من حيث الترتيب والاولوية.
من غرائب الطرف أن المجتمعات الغربية القائمة على فلسفة الحق الفردي والنزعة الفردية، أكثر حرصاً على المصلحة العامة، وأشد حفظاً للحق العام، وتبرز لديها ثقافة المحافظة على المؤسسات المجتمعية العامة، بينما نشاهد نقيض ذلك في مجتمعاتنا القائمة على فلسفة العطاء ونكران الذات، واحترام قيم المجتمع، والتنظير لمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، المأخوذ من الأحكام الشرعية والمسلمات الدينية المنبثقة من قاعدة قطعية تقررها الآية: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ»، حيث أن هذه الآية اشارت لصفة «الخيرية» المرتبطة بتقديم الخدمة العامة لكل البشر ولجميع الناس، والتعاون معهم على أمور البر والخير، وتقديم العون لهم في كل المجالات المادية والمعنوية، على الصعيد الدنيوي وعلى الصعيد الأخروي.
أمر يدعو إلى الدهشة إن صحّت هذه القراءة، مما يحتم علينا جميعاً القيام بمهمة البحث والاستقصاء، وإعمال النظر من اجل الوصول إلى الأسباب الحقيقية لهذا الانقلاب الأخلاقي الكبير على الصعيد المجتمعي الواسع، ومن ثم التعاون بين جميع أهل الاختصاص والخبرة والمسؤولية ، من أجل الشروع في وضع الخطط والبرامج والاستراتيجيات القادرة على قلب الصورة، وإعادة المشهد العام إلى أسسه ومرتكزاته الأصيلة من أجل إعادة بناء الإنسان، وإعادة بناء المجتمع، القادر على حفظ الحق العام، وصيانة المصلحة العامة، التي ترتد إيجاباً بشكل حتمي ومؤكد على المصالح الفردية والحقوق الشخصية.
الفلسفة الإسلامية تقوم على اساس الجمع المزدوج بين المصلحة الفردية والمصلحة العامة، وتقوم على وضع التشريعات والأنظمة والضمانات التي تكفل حراسة الحق الشخصي والحق العام معا، دون هدر أحدهما على حساب الأخر، مع تفضيل مرتبة الحق العام بالحفظ والصيانة عند حدوث التعارض الاستثنائي، والتناقض الذي لا يمكن إزالته الاّ بترجيح جانب على آخر، دون إهمال لمبدأ التعويض لصاحب الحق الفردي.
الفلسفة الإسلامية القائمة على مبدأ التوفيق بين الحقين هي فلسفة أصيلة منذ البدء، وليس خلطاً متكلفاً بين فلسفة الحق الفردي وفلسفة الحق الجماعي، لأنها سابقة على ظهور الفلسفتين ابتداءً، والأمر الآخر الذي يستحق الإشارة الواضحة في هذا السياق ؛أن الإسلام جعل الحق العام والمصلحة العامة تحت مسمّى حقوق الله، عندما تم تقسيم الحقوق إلى زمرتين: حق الله، وحق الأدمي، وبعض الحقوق يمتزج فيها حق الله مع حق العبد، ونسبة حق المجتمع والحق العام إلى الله يأتي من باب رفع مرتبة الحق العام وإعلاء شأنه، ليأخذ نوعاً من القداسة، تنعكس على ضمير الفرد وعقله وقلبه، اهتماماً واحتراماً وتقديساً.
رغم هذا المفهوم القطعي الذي تمت الإشارة إليه، الاّ أننا نجد جرأة زائدة لدى غالبية الأفراد في الاعتداء على الحق العام، وتظهر ثقافة التهاون بالمصلحة العامة لدى مجتمعاتنا، وفي مقابل ذلك نجد نهماً شديداً وحرصاً مبالغاً فيه لدى غالبية الناس في تقديم مصالحها الشخصية إلى درجة الإضرار بالنظام والأخلاق والمروءة والأعراف والتقاليد، والدين، ويصبح التدين أحياناً لدى بعضهم لا يقدم ولا يؤخر في هذا السلوك الذي يتسم بالأنانية الفردية الملحوظة في السلوك والتعامل اليومي بين الأفراد في مواطن التجمع والمشاركة، مما ينبئ بمعالم الخطورة على المستقبل الجمعي المشترك لنا جميعاً ،ويأتي ذلك من خلال إقدام بعضنا على خرق السفينة التي تقلنا جميعاً، فإما أن نأخذ على أيديهم لننجو واياهم، أو أن نسير جميعا نحو الغرق المحتم لهم ولنا أيضاً.