سابعاً: المناعة وعلاقتها بالأمراض السّرطانية
الخلية السرطانية، هي في الواقع، خلية طبيعية في جسم الإنسان، وتنقسم انقساماً طبيعياً إلى خليتين، تحملان عدد الكروموسومات Chromosomes نفسها، الموجودة في الخلية الأصلية. ولكن تحدث استجابة مناعية لبعض التغيرات، التي تتعرض لها الخلية، تؤدي إلى حدوث طفرة في تركيبها الجيني، وفي ترتيب الأحماض النووية بالخلية DNA، فيؤدي ذلك إلى تحول الخلية الطبيعية إلى خلية سرطانية، لا تنقسم بانتظام، وإنما تنقسم بصورة عشوائية جنونية، لتنتج عدداً من الخلايا، لا يحتاج إليها الجسم، وتسبب الورم السرطاني.
1. الأسباب المناعية لحدوث الأمراض السرطانية
أ. وجود جينات تسبب السرطان Oncogens
اكتُشف أكثر من مائة جين منها حتى الآن، وهي عبارة عن جين وراثي، حدثت به طفرة أدت إلى أن يختلف عن الجينات الطبيعية، التي تحدث انقساما طبيعيا في الخلية، ونسخ الحامض النووي بطريقة سليمة، وبترتيب مطابق لترتيبه في الخلية الأصلية. وعند حدوث هذه الطفرة في الجين، يؤدي ذلك إلى حدوث انقسام غير طبيعي في الخلية، ونسخ الحامض النووي بطريقة غير سليمة، وبترتيب يختلف عن الترتيب الموجود في الخلية الأصلية، ما يؤدي إلى حدوث ورم سرطاني.
ب. توقف عمل الجينات المثبطة للأورام Tumor Suppressor Genes
تؤدي الجينات المثبطة للأورام، والمكتشف منها حوالي خمسة عشر نوعاً حتى الآن، دوراً مهماً في تكوين الأورام السرطانية. فهذه الجينات، التي توجد بشكل طبيعي في الخلية، مهمتها الأساسية هي وقف عمل الخلايا السرطانية. فإذا حدث بها أي تغيير أو طفرات، انعدم تأثيرها، ويصبح الانقسام السرطاني العشوائي مستمر دون توقف أو تحجيم. ويزداد نمو الورم السرطاني. وقد استطاع العلماء، من طريق دراسة هذه الجينات، ومعرفة ترتيب الأحماض بها، وتركيبها، تحديد مدى انتشار السرطان، ونسبة الشفاء منه، وإمكانية علاجه.
ج. الشفرة الوراثية Genetic Code
يوجد داخل النواة بكل خلية الحامض النووي DNA، وهو يمثّل الشفرة الوراثية، أو البصمة الجينية، وهي عبارة عن ترتيب معين لأحماض أمينية، وبروتينات. وإذا أختلف أحدها في الترتيب عن الآخر، يحدث ما يُسمى بالطفرة. ويؤدي ذلك إلى تغيير في الصفة الوراثية، والوظيفة المسؤول عنها هذا الجين، فيُحدث أمراضاً وراثية، وتشوهات خلقية، وأوراماً سرطانية، وذلك حسب شكل ووظيفة ومكان هذا الجين.ويوجد بالخلية حوالي مائة ألف جين يعمل منها 10% فقط، والباقي في حالة خمول، ولكنه قد ينشط في أجيال لاحقة بعد ذلك.
وقد تركّزت جهود العلماء في البحث عن الجين المعيب، الذي يسبب المرض، وأمكن التوصل إلى معظم هذه العيوب، وأماكن وجودها، بل حاول العلماء إصلاح ترتيب الأحماض الأمينية بالخلية، من خلال الهندسة الوراثية، ومن ثم يصبح علاج الأمراض الوراثية ممكناً.
واستطاع العلماء اكتشاف أنزيمات لإصلاح الحامض النووي، تُسمى DNA Repair Enzymes وهي تقدم علاجاً فورياً لأي خلل يحدث بالخلية، في ترتيب الأحماض النووية وشكلها، لكي تظل الخلية تؤدي عملها بصورة طبيعية. ولكن إذا ضعف تأثير هذه الأنزيمات بسبب ملوثات البيئة، والأدوية، والمواد المسببة للسرطان، وأشعة الكومبيوتر، والتكنولوجيا الحديثة، تزداد نسبة حدوث الأخطاء أثناء الانقسامات، ما يؤدي إلى أن تعمل هذه الأنزيمات فوق طاقتها، فتقع منها أخطاء أثناء عملية نسخ الحامض النووي DNA، وتسبب الأورام السرطانية.
2. علاقة المناعة بالأمراض السرطانية
يؤدي جهاز المناعة دوراً حيوياً في مراقبة الخلايا السرطانية والقضاء عليها، لأنه يعدها خلايا غريبة عنه، يجب التخلص منها. ويؤدي هذا الدور الخلايا الآتية:-
أ. الخلايا القاتلة الطبيعية Natural Killer cells: NK cells (أُنظر صورة نظام عمل الخلايا القاتلة)
وهي خلايا متخصصة، مهمتها الأساسية القضاء على الخلايا السرطانية، أو الخلايا التي هاجمتها الفيروسات، وأدت إلى حدوث تغيير خلوي بداخلها. وتؤدي هذه الخلايا مهمتها عندما يكون جهاز المناعة قوى، والمواد المناعية تفرز جيداً، أما إذا كان هناك ضعف أو نقص في الجهاز المناعي، أو أثناء تناول أدوية، تؤدي إلى تثبيط الجهاز المناعي، فلا تقوم هذه الخلايا بعملها.
ب. الخلايا التائية T-cells
وهي تمثل خط الدفاع الثاني في القضاء على الخلايا السرطانية، كلما ظهرت في مكان بالجسم.
ج. الخلايا البالعة Phagocytic cells
تبتلع الخلايا السرطانية، وتقضي عليها، وأحياناً تفتت الخلية السرطانية، وتخرج جزءاً منها على السطح، لتقضي الخلايا التائية النشطة عليه. وقد اكتشف العلماء بعض المواد، التي تقلل من نشاط الخلايا البالعة، وتفرزها خلايا سرطانية، حتى تسنح لها الفرصة في الهروب، من الخلايا البالعة.
ويحفّز ظهور الخلايا السرطانية، التي تحمل صفة جينية تختلف عن الصفات الجينية الموجودة في الخلايا الطبيعية بالجسم، جهاز المناعة، على إفراز بعض الأجسام المضادة، والمواد السامة القاتلة لهذه الخلايا، ومن ثم يصبح ظهور هذه المواد في الدم مُعيناً على الكشف المبكر عن السرطان. وقد لاحظ العلماء أن بعض الخلايا السرطانية تظهر في الجنين، ويكوّن الجسم أجساماً مضادة لها، ثم تختفي هذه الخلايا والأجسام المضادة بعد الولادة مباشرة. ولكن وجودها مرة ثانية، يكون دليلاً على أن الخلايا السرطانية، نشطت مرة أخرى. وتسمى هذه المواد "بدلالات الأورام السرطانية".
وقد يحدث التغيير للصفة الجينية في الخلايا المصابة، بسبب مواد كيميائية، أو إصابة بفيروسات، ويمر هذا التغيير بثلاث مراحل هي:
(1) تغيير في حامض نواة الخلية DNA، بواسطة المؤثرات الكيميائية، كالأدوية، أو المواد الحافظة المضافة للأطعمة، أو بواسطة مؤثرات بيولوجية، مثل الفيروسات، أو بعض أنواع الفطريات، والبكتريا، والطفيليات.
(2) يؤدي التغيير في حامض نواة الخلية، إلى زيادة نشاط الخلية وتحفيزها، مع تغيير في البصمة الجينية.
(3) تبدأ الخلية في الانقسام العشوائي المطرد، وتستمر عملية النمو، والانقسام، حتى يؤدي ذلك إلى ظهور الورم نفسه، أو ظهور أعراض بسبب ضغط هذا الورم على ما حوله، ويكتشف في مرحلة متأخرة. لذا، يمثل الورم السرطاني، المرحلة الأخيرة من مراحل متعددة، ومستمرة على مدى زمني، يختلف باختلاف نوع السرطان، ومكانه. ولهذا فاستخدام الدلالات الخاصة بالكشف المبكر على السرطان Tumor Markers، تؤدي إلى سرعة علاجه.
3. العوامل التي تساعد الخلايا السرطانية على الهروب من الجهاز المناعي:
أ. عمر المريض
إن من أهم عوامل حماية الجسم من السرطان، وجود جهاز مناعة على مستوى معين من الكفاءة ومكتمل؛ لهذا تكثر الإصابة بالأورام السرطانية في السن الصغير، لأن جهاز المناعة يكون غير مكتمل النمو، وكذلك عند الكبر، حيث تقل كفاءة الجهاز لكثرة التعرض للتلوث البيئي، وضعف الخلايا عامة عند تقدم العمر.
ب. أمراض نقص المناعة واستخدام الأدوية المثبطة للمناعة
وسواء كانت "نقص مناعة طبيعية"، بسبب أمراض وراثية، أو "نقص مناعة مكتسبة"، فإن قلة عدد الخلايا بالجهاز المناعي، تسمح للخلايا السرطانية بالهروب والنمو والانقسام. كما ينطبق ذلك على الأدوية المثبطة للمناعة.
ج. نوع الخلايا السرطانية
تتسلل بعض أنواع الخلايا السرطانية، بحيث لا يشُعر بها الجهاز المناعي في أول ظهورها، ثم تصل بعد ذلك إلى حجم كبير تصعب معه سيطرة الجهاز المناعي عليها. كما أن بعض الخلايا السرطانية تفرز مواد معينة مثبطة للمناعة، من طريق تقليل إفراز الأجسام المضادة، وتعوّق عمل الخلايا البالعة، أو الخلايا الليمفاوية.
د. مولدات المضادات وتحويرها
مع وجود الأجسام المضادة يحدث تحوير لهذه المولدات، أو اختفائها داخل جدار الخلايا السرطانية، مما يفقد الخلايا المناعية القدرة على التعرف على هذه الخلايا. كذلك، قد يحدث تغيير في الصفة الجينية في فترة معينة أثناء نمو الجنين، ثم يتوقف ذلك، ويتعرف جهاز المناعة على هذه الخلايا الغريبة. ثم تنشط هذه الخلايا خلال فترات أخرى من العمر، فلا يعدها الجسم غريبة، ولا يعترضها فتنمو وتنقسم، وتكوّن أوراماً. ومن العوامل التي تؤثر على زيادة نمو الخلايا السرطانية كذلك، حقيقة خاصة بالمواد البروتينية، التي تستهلكها الخلايا السرطانية في النمو والانقسام، ومن ثم فإن نقص هذه المواد يؤثر بالسّلب على الكفاءة المناعية مما يساعد على زيادة ونمو الخلايا السرطانية وانتشارها.
4. الهندسة الوراثية والسرطان
أتاح التقدم المذهل في علوم الهندسة الوراثية الفرصة أمام العلماء، لدراسة الحامض النووي DNA، واكتشاف أجزاء خاصة في نهاية الكروموسومات تسمى Telomers، أي تكرار الشفرة الوراثية؛ بمعنى أن الترتيب المعين من الصفات والشفرات الوراثية يتكرر عدة مرات، وتسمى هذه التعددية، أو التكرار، تكرار الشفرة الوراثية أو Telomers. وعندما تنقسم الخلية، فإنها تفقد ما بين خمسة إلى عشرين من هذه القطع المتكررة. ولذلك يقل هذا العدد مع كل انقسام، ويصبح العدد الذي تحمله كل خلية من هذه القطع المتكررة، هو العامل المحدد لعمر الخلية، والوقت المتاح لحياتها، وتنقسم، وتفقد هذه القطع.
إن هذه القطع، أو أجزاء الحامض النووي الموجودة في نهاية الكروموسومات، هي التي تحدد عمر كل خلية، قبل أن صيبها الشيخوخة، بل وموتها في حالة فقدها هذه القطع نهائياً. أما الخلايا السرطانية، التي تستمر في الانقسام والتكاثر إلى ما لانهاية، فقد أثبتت الأبحاث أنها تفرز أنزيماً معيناً يسمى Telomerase enzyme، له القدرة على عمل نسخ كثيرة جداً من قطع الشفرات الوراثية، كي تحل محل القطع التي تفقدها الخلية أثناء الانقسام. ولعل هذا الاكتشاف يعطى مراكز الأبحاث الخاصة بالسرطان، مدخلاً لمحاولة علاج هذا الداء اللعين من طريق اكتشاف دواء يمنع إفراز هذا الأنزيم، الذي يجعل الخلية تنقسم عشوائيا، وبلا توقف، ومن ثم لا ينتشر الورم كثيراً بل يصبح في مكان محدد يمكن استئصاله، أو علاجه، دون انتشاره في الجسم كله، وهذا هو أحد مجالات البحث لمعرفة الترتيب الجينى لهذا الأنزيم، وإنتاج ما يمنع عمله، وإفرازه.
5. الأمراض السرطانية وعلاقتها بشوارد الأكسجين الحرة Free Oxygen Radicals
من المعروف أن الأكسجين يوجد في صورة ثنائية، أي ذرتين أكسجين معا لتكون جزئ الأكسجين O2، وعند احتراق الغذاء وتوليد الطاقة تنتج ذرات أكسجين حرة، ليست في صورة جزيئيه ثنائية. ويؤثر وجود ذرات الأكسجين، أو شوارد الأكسجين الحرة، على جهاز المناعة، ويقلل من كفاءته بصفة عامة، ومن مقاومته للسرطان بصفة خاصة. وكذلك يسبب ضموراً بالأعصاب، وأمراض المناعة الذاتية، وأمراض القلب والشرايين. وقد اكتشف العلماء مواد تمنع الأكسدة Antioxidants، فتمنع ـ تبعاً لذلك ـ وجود الأكسجين في هذه الصورة الطليقة المدمرة.
ومن أمثلة هذه المواد فيتامين A ، وفيتامين C ، وفيتامين E. ومن نتائج الدراسات في هذا الموضوع ما يلي:
أ. ازدياد نسبة حدوث الأورام السرطانية، مع زيادة كمية الدهون في الغذاء، لأن المواد الدهنية تزيد من كمية الشوارد الحرة في الخلايا. ويبدو ذلك في كثرة حدوث السرطان بين مرضى السّمنة والدّول المتقدمة.
ب. انخفاض نسبة الأورام السرطانية مع تناول جرعات عالية من فيتامين E هـ بانتظام، لأنه من موانع الأكسدة؛ وكذلك الحال مع فيتامين A أ وفيتامين C ج، الذي يستخدم ليس فقط لمنع حدوث السرطان، بل في علاجه كذلك.
ج. ازدياد نسبة حدوث الأورام السرطانية، عموماً، مع تقدم العمر يعطى انطباعاً بأن السبب وراء حدوث الشيخوخة، والسرطان يرجع إلى أصل واحد، هو وجود هذه الشوارد الحرة.
ثامناً: نقص المناعة والإيدز والانفعالات
يرجع الفضل في التعّريف بعلم المناعة وأهميته، إلى ظهور مرض نقص المناعة المكتسبة "الإيدز". فكثير من الناس بدأت معرفتهم بهذا العلم، على أنه العلم الخاص بفيروس الإيدز. وقد أعطى وباء الإيدز العلماء فرصة للبحث في مجال المناعة، بشكل مكثف وعميق لاكتشاف علاج، أو تحصين، ضد هذا المرض. وقد ساعد البحث في هذا المضمار، على معرفة كثير من أسرار الجهاز المناعي للإنسان. فأصبح العلم يعرف الكثير عن التركيب الجيني لفيروس الإيدز، والتحاليل التي تثبت وجوده من عدمه، وما يسببه من تدمير لجهاز المناعة بعناصره الأساسية الأربعة، وهي: الأجسام المضادة، والمناعة الخلوية، والخلايا البالعة، والمركب البروتيني المكمل. وعند حدوث أي نقص في مثل هذه المكونات الأساسية، تحدث أعراض عامة لهذا النقص، وأعراض خاصة، تختلف باختلاف العنصر، الذي تم دُمّر في جهاز المناعة. وتشمل هذه الأعراض العامة:
1. كثرة العدوى بالأمراض المختلفة، بصورة متكررة ومزمنة.
2. الإصابة بميكروبات من غير المعتاد إصابة الإنسان بها.
3. عدم الاستجابة للعلاج، وكثرة حدوث الانتكاسات.
4. الطفح الجلدي، والخراريج المتكررة، والإسهال، وحدوث تضخم في الكبد، والطحال.
أما الأعراض الخاصة بنقص الأجسام المناعية فقط، فقد تكون نقصاً لكل أنواع الأجسام المضادة، أو قد يُصيب النقص نوعاً واحداً فقط منها. وتتميز بحدوث التهابات صديدية متكررة بداية من الشهر السادس من عمر الطفل، وذلك بعد اختفاء الأجسام المناعية، التي انتقلت من الأم إلى الطفل عبر المشيمة. ويستجيب المريض للعلاج، بواسطة الحَقْن بالأجسام المناعية الجاهزة التحضير، وتسمى جاماجلوبيولين Gammaglobuline. ويُنصح بعدم إعطاء أي لقاحات للأطفال في هذا السن، لما في ذلك من خطورة على حياتهم من تلك الميكروبات الضعيفة، الموجودة باللقاحات.
أما نقص المناعة الخلوية، فتحدث أعراضه الخاصة، بسبب عدم وجود الغدة الصعترية، أو التيموسية Thymus gland، نتيجة لعيب خلقي، ومن ثم يحدث تحسن في هذه الحالات عقب زرع غدة أخرى بالجسم. وتظهر الأعراض عقب الولادة مباشرة.
وفي نقص وظائف الخلايا البالعة، أو المركب البروتيني المكمل، يكون التشخيص، بقياس وظائف الخلايا البالعة بطرق خاصة، وكذلك قياس البروتين المكمل. ويؤدي نقصهم إلى الإصابة بأمراض، عادة، لا تصيب الشخص السليم، ويحدث النقص عموماً في أكثر من عنصر من هذه العناصر الأربعة.
1. نقص المناعة المكتسبة ـ الإيدز Acquired Immune Deficiency Syndrome
اكتسب "الإيدز" اسمه من وضع الحرف الأول لكل كلمة، من الاسم المكوّن من 4 كلمات وهي، AIDS. وهو يعد أهم وأخطر الأمراض، التي أصابت الإنسان في القرن العشرين. ويمثل التوصل إلى علاج له، تحدياً للعلماء. ويعد هذا المرض، من أسباب الموت الرئيسية بين مرضى الهيموفيليا، ومرضى أنيميا البحر المتوسط، ومدمني المخدرات، والشواذ. بل إن انتقاله من الأم إلى المولود، يخلق أجيالاً بريئة مصابة بهذا الفيروس اللعين.
وهناك حالات يزداد فيها التعرض للإصابة، لكن بدرجة أقل، مثل الفئات التي لها احتكاك بالمرضى، وبالدم في الوقت نفسه، مثل أعضاء هيئة التمريض، والأطباء، وأطباء الأسنان، والحلاقون.
وبعد دخول الفيروس إلى الجسم، فإنه يغزو الخلايا التائية المساعدة من طريق مستقبلات خاصة موجودة على جدارها، تسمى CD-4، ويسيطر عليها، ويتضاعف، ويتكاثر داخلها حتى تنفجر الخلية في النهاية، وتنطلق من داخلها أعداد هائلة من الفيروس، يمارس كل منها الدور نفسه مع خلية تائية مساعدة جديدة. وهكذا يقل عدد هذه الخلايا إلى درجة كبيرة، ويزيد عدد الخلايا المثبطة، فينعكس ذلك سلباً وتثبيطاً على عناصر الجهاز المناعي، من خلايا بالعة، وخلايا طبيعية أكولة، وخلايا بائية، ويقل دور هذه الخلايا، ويقل إفرازها، الذي ينشّط كرات الدم البيضاء، وتصبح معظم خلايا الجهاز المناعي من دون وظيفة.
وتتمثل خطورة الإيدز في أنه قد يمر وقت طويل بين مرحلة دخول الفيروس إلى الجسم، وبين ظهور الأعراض، ما يتيح للمريض الانتقال بحرية بين أفراد المجتمع، ناقلاً العدوى للآخرين، دون ظهور الأعراض عليه.
ويسمى فيروس الإيدز Human Immunodeficiency Virus، ويختصر إلى الحروف الأولى HIV، وهو يتجه إلى أي خلية تائية مساعدة تحمل على سطحها البروتين CD-4.
أ. أعراض المرض
(1) ارتفاع في درجة الحرارة، مصحوباً بعرق شديد.
(2) صداع وزغللة في العينين، والتهاب في الحلق.
(3) فقدان الشهية وميل للقيء، مع ضعف عام، وهزال، وإرهاق.
(4) ألم في المفاصل والعضلات، وتورم في الغدد الليمفاوية.
(5) ظهور طفح جلدي في الأنف والخدين، وقد يظهر ورم خبيث بالأنف والوجه ينتهي بالوفاة. (أُنظر صورة أحد أعراض مرض الإيدز)
ب. التشخيص المعملي
(1) الكشف عن الفيروس، أو أحد مكوناته في الدم، وذلك في الفترة بين أسبوعين من التعرض للفيروس، ولمدة أربعة أشهر، أما بعد ذلك فلا يُكشف عنه.
(2) الكشف عن الأجسام المضادة، وذلك بعد شهرين من التعرض للفيروس، وتستمر هذه الأجسام المضادة بالدم بعد ذلك، ويكون ذلك من طريق اختبار اليزا ELISA، ويستغرق ست ساعات لمعرفة النتائج، ولهذا يكثر استخدام هذه الطريقة في بنوك الدم للتأكد من سلامة الدم قبل نقله للمرضى.
(3) استعمال طريقة التفاعل المضاعف المتسلسل PCR، وهي تعتمد على الهندسية الوراثية لقياس الأحماض النووية الخاصة بالفيروس في الدم، أو أجزاء متناهية في الصغر منها؛ وهذه الطريقة دقيقة جداً، ولكنها غالية التكاليف، وغير متاحة في كل المعامل.
2. المناعة والانفعالات
يوجد عدد من الأمراض، التي تنتج من الانفعالات والتوتر، وليس لها علاقة بالجهاز العصبي بل يمتد تأثيرها ليشمل بعض الغدد الصماء، وجهاز المناعة كذلك.
فقد أثبتت الدراسات وجود مواد خاصة بالجهاز المناعي، مثل مادتي الأنترليوكين والأنترفيرون في المخ والجهاز العصبي، ولها تأثير على سلوك الإنسان وتصرفاته، مثل الشهية، ودرجة الإحساس بالألم، وأسلوب النوم، وارتفاع درجة الحرارة.
كما توجد موصلات عصبية، خاصة بالجهاز العصبي فقط اسمها إندورفين Endorphins، مهمتها توصيل الكهرباء، والإشارات العصبية. وهي عبارة عن أفيونات طبيعية مهمتها أساساً أن تجعل الإنسان في حالة مزاجية، ونفسية طبيعية.
وتؤثر الانفعالات بشكل مباشر على المناعة، والعكس صحيح. فيُلاحظ أن مرضى الاكتئاب النفسي، مثلاً، يعانون من انخفاض ملحوظ في عدد الخلايا التائية المساعدة، ما يجعلهم عرضة للإصابة بالأورام السرطانية، أكثر من غيرهم. وكذلك يُعاني أقارب المرضى الميئوس من شفائهم، من إرهاق عصبي، ونفسي مستمر، يؤدي إلى خلل في جهازهم المناعي.
وقد أثبتت الدراسات النفسية أن الوحدة والانعزال، من أخطر العوامل تأثيرا على جسم الإنسان، وجهازه المناعي.
وتؤدي الأمراض الناتجة عن خلل في المناعة، مثل الذئبة الحمراء، والروماتويد، والسكر، إلى تقليل القدرة على الحمل، والخصوبة، والإنجاب. وإذا حدث حمل فإن نسبة الإجهاض تكون عالية، ومتكررة، وقد تحدث تشوهات بالجنين، أو انقطاع مبكر للطمث، نتيجة لاضطراب الجهاز المناعي، والقلق الدائم، والمستمر الذي يعيشه هؤلاء المرضى. لذا، فعلى هؤلاء المرضى عدم التحدث مع الآخرين عن مرضهم، ومحاولة التعايش، والتكيف بصورة طبيعية، حتى لا يؤدي إحساسهم بالمرض إلى نوع من العزلة، أو التوتر المستمر، بما يزيد من شدة المرض ومضاعفاته.
وفي دراسات أجريت على طلبة الجامعة والمدارس الثانوية، في الشّهادات النهائية، تبين أن توتر الامتحانات لديهم، يؤدي إلى انخفاض ملحوظ في الخلايا الليمفاوية، أو الخلايا الطبيعية القاتلة؛ وكذلك نقص في بعض المواد المناعية، مثل الأنترفيرون. وأخيراً أثبتت الدراسات أن الانفعالات، بجميع أنواعها، تؤثر على ظهور أعراض أمراض المناعة الذاتية، وذلك من طريق غدتين رئيسيتين في المخ، هما الغدة تحت الدماغية Hypothalamus، والغدة النخامية Pituitary gland. ومن خلال سيطرة الانفعالات على هذه الغدد، تُفرز هرمونات تزيد من حدة الالتهاب، الذي تسببه أمراض المناعة الذاتية.
تاسعاً: جهاز المناعة وزراعة الأعضاء
تقدمت عملية زراعة الأعضاء تقدماً كبيراً، وزادت نسبة نجاحها في السّنوات الأخيرة، وأصبحت وسيلة لتحسين وظائف عضو من الجسم، كطريق للعلاج بدلاً من أنها عملية إنقاذ حياة فقط كما كانت من قبل. وقد أجريت أول عملية زرع كلى عام 1954، وتلا ذلك تقدم في تحاليل الأنسجة، واستعمال أدوية تثبيط المناعة، التي تساعد على منع لفظ الجسم للكلى، ما جعل عمليات زرع الأعضاء، الآن، حقيقة واقعة.
1. كيفية تعرف الجهاز المناعي على الأجسام الغريبة عن الجسم:
أ. تشارك جميع خلايا الجهاز المناعي، بما فيها الخلايا البائية B-Cells والخلايا التائية T-Cells، الموجدتان في العقد الليمفاوية والطحال والغدة الصعترية، فى التفاعل ضد أي عضو غريب عن الجسم. فعند دخول جسم غريب إلى جسم الإنسان، سواء كان ميكروباً أو نوعاً خاصاً من البروتينات، أو خلايا عضو مزروع، فإنه يُفحص بواسطة نوع معين من خلايا الجهاز المناعي، وخاصة الخلايا البالعة Macrophages، التي تتفاعل مع مولد المضاد الغريب عند اكتشافها أنه غريب عن الجسم، فتطوقه ثم تقدمه إلى الخلايا التائية النشطة. ولذلك سميت بخلايا التقديم Antigen Presenting cells؛ كما تفرز نوعاً من الإفرازات، تسمى الليمفوكاينز، تحتوي على عديد من المواد المناعية الهامة مثل مادة الإنترليوكين-2، والإنترفيرون، وعامل نمو الخلايا البائية، التي تساعد على تنشيط كل من الخلايا البائية والتائية، لتتعامل مع هذا الجسم الغريب.
ب. تستطيع الخلايا البالعة، أو خلايا الجهاز المناعي بشكل عام، التمييز بين خلايا الجسم نفسه، والخلايا الغريبة عنها، من طريق إحدى الجينات الموجودة على أماكن متعددة على الذراع القصير للكروموسوم السادس، وينقسم إلى أربع مناطق أ، ب، ج، د، ويسمى Human Lymphocyte Antigen: HLA، ويوجد على جدار كل خلية حية في جسم الإنسان. وهو عبارة عن مجموعة من البروتينات الجينية، التي تتكون بشكل معين، حسب شفرة وراثية معينة، تُعطي كل خلية، من خلايا الجسم، هَويتها التي تجعل الجهاز المناعي للجسم، الذي يحمل الهوية نفسها لا يتفاعل معها، أو يمتنع عن مهاجمتها للقضاء عليها.
أما في حالة دخول الجسم الغريب، إلى جسم الإنسان، فإن الخلايا البالعة تتعرف عليه، وتذهب وتحيط به وتطوقه، وتحاول التهامه بداخلها، ثم تقدمه للخلايا التائية النشطة (أُنظر شكل طريقة التهام الخلايا الأكولة)، التي لا يمكن أن تُعطي أي رد فعل ضد الميكروب، إلاّ إذا كان مقدماً من هذه الخلايا البالعة، وبجانبه تلك الشفرة الوراثية الموجودة على جدارها، وتسمى HLA، حتى يتعرف عليها الجهاز المناعي، وإلاّ فإنه بأكمله لن يتحرك، ولن يكون له رد فعل، ضد هذا الجسم الغريب.
ولا يتطابق مركب HLA أبداً بين اثنين من البشر، إلاّ إذا كانا توءمين متطابقين.
2. زراعة الأعضاء Organ Transplantation
ساعد استعمال عقار السيكلوسبورين Cyclosporone، والتقدم في وسائل تحضير الأجسام المناعية، ووسائل تثبيط المناعة، في زيادة نسبة نجاح عمليات زرع الأعضاء. ولم يقتصر استعمال هذه العقاقير، في مجال زرع الأعضاء فحسب، بل أمتد ليشمل علاج أمراض كثيرة ناتجة من خلل في جهاز المناعة. وكان للدراسات المناعية، التي صاحبت عمليات زرع الأعضاء، أهمية كبيرة، إذ تم الكشف عن مولدات المضادات الموجودة على خلايا الجسم، التي يتحكم في وظائفها المركب HLA، الموجود على الكروموسوم السادس. وتكمن أهمية هذه المولدات في أنها هي التي تحفّز الخلايا التائية، لتتعامل مع النسيج المنقول من جسم آخر، إذا لم يكن مطابقاً لأنسجة الجسم المنقول إليه.
كما عُرف الكثير عن المعلومات الخاصة بالخلايا الليمفاوية التائية، وما يتعلق بأمراض المناعة الذاتية، من التجارب التي أجريت على نقل الأعضاء والأنسجة. وقد كانت أسباب هذه الأمراض والتغيرات الباثولوجية التي تسببها، غير معروفة، قبل ذلك.
أ. أنواع نقل الأعضاء
(1) النوع الأول: نقل أنسجة من جسم ووضعها بالجسم نفسه، في مكان آخر. وفى هذه الحالة تكون الخلايا غير غريبة عن الجسم، ولذلك لا يتفاعل معها الجهاز المناعي.
(2) النوع الثاني: نقل عضو من فرد إلى فرد آخر متطابق معه، كما في التوائم وحيدة البويضة المتماثلة، أو في حيوانات التجارب، التي تربى بطريقة التزاوج بين أبناء السلالة الواحدة، حتى ينتج جيل متجانس من ناحية الأنسجة.
(3) النوع الثالث: الأكثر شيوعاً، هو نقل الأعضاء من فرد إلى آخر من الفصيلة نفسها، لكنه غير متطابق تماماً من ناحية مولدات المضادات، الموجودة بالخلايا والأنسجة. وهذا النوع هو ما يستلزم عمل تحاليل للأنسجة، حتى يوجد الشخص المتبرع المناسب، إضافة إلى استعمال الأدوية المثبطة للمناعة، حتى لا يحدث رفض للعضو المنقول.
(4) النوع الرابع: يتضمن أقصى درجات الاختلاف، وفيه يُنقل عضو من حيوان إلى إنسان، حيث يكون الرفض سريعاً جداً، إلاّ إذا جرت معالجة العضو قبل نقله، لتقليل درجة تركيز مولدات المضادات على الخلايا. ويُستعان ببعض صمامات القلب والجلد وبعض الأوعية الدموية، التي قد تنقل من بعض الحيوانات إلى الإنسان.
وإذا نجحت التجارب التي تُجرى الآن في هذا الشأن، فإن ذلك سوف يسهل عملية البحث عن أعضاء للمرضى، الذين تتطلب حالتهم ذلك. وتبقى بعض المعوقات، مثل اختلاف حجم العضو بين الإنسان والحيوان، والخوف من نقل بعض الأمراض، وكذلك الحالة النفسية وغيرها من المشكلات.
ب. رفض العضو المنقول
تختلف سرعة رفض الجسم للعضو المنقول، تبعاً لما يلي:
(1) رفض سريع جداً
ويحدث في الأشخاص الذين يحملون أجساماً مضادة مسبقاً، نتيجة لنقل دم سابق إليهم، أو حمل متكرر، أو محاولة سابقة لنقل عضو، ويمكن تجنب ذلك بإجراء اختبار لمصل المريض، للتأكد من عدم وجود هذه الأجسام المضادة.
(2) رفض حاد
ويستغرق أياماً أو أسابيع، ويحدث نتيجة لعدم تطابق فصيلة كل من المتبرع والمستقبل. وتعتمد درجة الرفض وسرعته، على مدى استعمال العقاقير المثبطة للمناعة.
(3) رفض بطئ
وقد يستغرق شهوراً أو سنين، ويسمى رفضاً مزمناً. وترجع أسبابه إلى ضعف يطرأ على تفاعل المناعة الخلوية، أو ترسيب الأجسام المضادة والمركبات المناعية، في النسيج المنقول.
3. كيفية التغلب على رفض العضو المنقول
أ. استخدام التحاليل المعملية
ينبغي إجراء التحاليل اللازمة قبل إجراء أي عملية لزرع الأعضاء، لمطابقة الأنسجة بين المتبرع والمستقبل. ويجرى ذلك بطرق عديدة، منها تحليل فصائل الخلايا، ثم عمل اختبار تطابق الخلايا. وقد حدث تقدم سريع في هذه الاختبارات، جعلها على جانب كبير من الدقة. وأنسب شخص ينقل منه العضو، هو الذي يكون مطابقاً تماماً للمريض، حتى لا يحدث رفض للعضو المنقول، ومثال ذلك التوأم. ولكن ذلك أمر نادر الحدوث للإنسان. وفى جميع الأحوال يكون هناك اختلاف بين المتبرع والمريض. وتبعاً لذلك فمن الضروري تحليل المركب HLA، من خلال تحليل خلايا الأنسجة بطريقتين:
(1) التحليل السيرولوجى Serological Analysis
ويتم بالكشف عن الأجسام المضادة، التي تنتج من اختلاف HLA، أو تلك الشفرة الوراثية، أو ذلك الكود الموجود على جدار الخلايا؛ فلو تعرف الجهاز المناعي على كود يختلف عن الكود الموجود على جدار خلاياه، فإنه يفرز أجساماً مضادة ضد هذه الخلايا الجديدة عليه، باعتبارها خلايا غريبة عن الجسم. ويمكن كشف ذلك من خلال تحليلات خاصة بالدم.
(2) تفاعل الخلايا الليمفاوية المختلطة Mixed Lymphocyte Reaction
ويعتمد على أن الخلايا الليمفاوية التائية تتكاثر وتنمو، عندما تكتشف وجود "كود" آخر لخلايا غريبة عنها Non Self، لذلك يُخلط الخلايا الليمفاوية من المتبرع والمريض، فإذا لم يحدث تفاعل بينهما، أو حدث تفاعل بسيط، فإن ذلك يدل على أن تقبلاً سيحدث للعضو المنقول.
ب. استخدام مثبطات المناعة
عند عمل تحليل للأنسجة، قبل زرع عضو من الأعضاء، فإن مركب HLA ـ الكود أو الشفرة الوراثية ـ للمريض الذي سيستقبل العضو المزروع يجري تحليله، لتحديد أي نوع من مولدات المضادات يشغل مناطق معينة، هي التي ينبغي أن تكون متطابقة بين الشخص المعطى والشخص المستقبل، حتى لا يحدث لفظ للعضو المزروع. وبداهة فإن هناك مناطق أخرى على هذا المركب، تشغلها مولدات أخرى لا يتم الكشف عليها، وهذا ما يدفع الأطباء إلى إعطاء المريض الذي زرع العضو له، أدوية مثبطة للجهاز المناعي، حتى لا ينشط ضدها ويرفضها ويلفظ العضو المزروع، ومن أمثلة هذه الأدوية: السيكولوسبورين، والكورتيزون، والآزوثيوبرين.
4. مستقبل زراعة الأعضاء
إن نقص عدد الأعضاء البشرية المتاحة للزّرع، سواء القلب أو الكبد أو الرئة، يُعد أهم عائق أمام عمليات زرع الأعضاء. ولذلك، أصبح ملحاً الآن دراسة إمكانية نقل الأعضاء من أجناس أخرى غير الإنسان، أو التفكير في نقل الخلايا ذات الوظائف الخاصة فقط، بدلاً من نقل \لأعضاء، مثل نقل خلايا الكبد أو الطحال، وكذلك نقل الخلايا الأم في النخاع، والمسؤولة عن إنتاج أنواع كثيرة من الخلايا الحيوية، ذات الوظائف المهمة.
5. العقاقير والوسائل المستخدمة لتحفيز، أو تثبيط، الجهاز المناعي
في كثير من الأحيان تكون هناك حاجة ماسة إلى تنظيم عمل الجهاز المناعي، إما إيجاباً أو سلباً؛ أي قد يقتضي الأمر تنشيط الجهاز المناعي، أو تثبيط المناعة، تبعاً للحالة.
وتشمل المواد المستخدمة في تنظيم الجهاز المناعي الآتي: السيتوكينز، الأجسام المناعية المضادة، والمواد المستخدمة في تثبيط المناعة
أ. السيتوكينز Cytokines
وهي مواد بروتينية تشبه الهورمونات، وتفرزها كل أنواع الخلايا المناعية، وقد تفرزها بعض خلايا الجسم الأخرى. ووظيفة هذه المواد هي تنظيم عمل الجهاز المناعي. وأهم وأشهر هذه المواد الإنترفيرون، والإنترلوكينز، وعامل تحلل الأورام، والمواد التي تساعد على نمو خلايا الدم.
(1) الإنترفيرون Interferon
تُنشّط الخلايا التائية المساعدة الخلايا الأكولة Phagocyte Cells، لإفراز مادة الأنترفيرون المضادة للفيروسات. وهناك ثلاثة أنواع من الإنترفيـرون هي: ألفا، وبيتا، وجاما. وتستخرج هذه المادة من دم المتطوعين، فهي لذلك غالية الثمن. ويستخدم الإنترفيرون ألفا في علاج بعض أنواع سرطانات الدم، والسرطانات الأخرى وبعض أمراض الفيروسات، مثل الالتهاب الكبدي المزمن النشط المصاحب للفيروس B أو C. وعموماً فإن الإنترفيرون ألفا يتميز بأنه ينشّط عمل خلايا الجهاز المناعي.ولكن الأعراض الجانبية لهذا العقار تحد من قيمته العلاجية، مثل: الشعور بالإجهاد، وفقدان الشهية ونقص كرات الدم البيضاء، وكذلك زيادة إنزيمات الكبد، وهبوط الضغط، وعدم انتظام ضربات القلب.
(2) الإنترلوكينز Interleukins
تُفرز هذه المادة وتستخلص من الخلايا الأكولة نفسها، التي تفرز الأنترفيرون. وهي تُحفّز الخلايا البائية على إفراز أجسام مضادة من نوع IgE، المسؤولة عن الحساسية. وأهم عنصر في هذه المجموعة هو الرقم 2، ويستعمل في علاج الأمراض السرطانية. وعند حقن مريض السرطان بهذا العقار، مضافاً إليه الخلايا الليمفاوية بعد فصلها من الأورام السرطانية، فإنه قد يعمل على تدمير الخلايا السرطانية دون الإضرار بالخلايا المحيطة بها.
ب. الأجسام المناعية المضادة
تتميز هذه الأجسام المضادة بإمكانية تحضير كميات كبيرة منها، ضد أي مولد مضاد، وليكن، مثلاً، ذلك الموجود على الخلايا السرطانية.وعند حقن هذه الأجسام المضادة، فإنها تتجه إلى الهدف المقصود وتتحد به. ويمكن الاستعانة بالمواد المشعة، أو المواد السامة للخلايا، أو أي أدوية أخرى، يكون لها تأثير على الخلايا السرطانية، حيث تحمل الأجسام المضادة هذه المواد وتوصلها إلى الخلايا التي يراد التخلص منها، فتحدث تدميراً بها دون إصابة الخلايا المحيطة.
ج. المواد المستخدمة في تثبيط المناعة
زادت الحاجة إلى هذه المواد خاصة مع التقدم في مجال زراعة الأعضاء، ومع زيادة عدد أمراض المناعة الذاتية، التي أمكن الكشف عنها، ما استوجب استخدام العديد من العقاقير. ولكن توجد بعض الآثار الجانبية، التي تنشأ من استخدام هذه المواد، مثل تأثر الخلايا الأخرى للجهاز المناعي، غير المعنية بالتثبيط، مما ينتج عنه ضعف في مقاومة المريض، وتعرضه للإصابة بالميكروبات. ولذلك لزم البحث عن طرق لتثبيط المناعة، تجاه مولدات معينة، وهو ما تركز عليه الأبحاث في مجال المناعة العلاجية، في الوقت الحالي.
ويتضح مما سبق، أن الأبحاث تهدف إلى الوصول إلى الحل الأمثل، وهو أن يتعرف الجهاز المناعي على مولدات معينة ويقاومها، وفى الوقت نفسه لا يستجيب لمولدات أخرى تقتضي سلامة المريض، ويهاجمها. وبذلك يُضمن عدم تعرض المريض للمضاعفات، التي تنتج عن زرع الأعضاء، وتؤثر على سلامته.
ويعتمد تثبيط المناعة على عدد من المواد والطرق، هي:
(1) هرمونات القشرة الكظرية Corticosteroids
الكورتيزون Cortisone مركب طبيعي، يدور في الدورة الدموية في جسم الإنسان، وتفرزه الغدة الكظرية، الموجودة فوق الكلية. وينظّم عمل هذه الغدة وإفرازها مراكز المخ العليا والغدة النخامية. ويتفاوت إفراز هذا الهورمون من وقت لآخر أثناء اليوم؛ فتكون نسبته في الصباح أكبر منها في المساء. كذلك يتأثر إفرازه بالحالة النفسية، فإذا تعرض الفرد لضغوط نفسية، ازدادت كمية الكورتيزون في الدورة الدموية، حسب شدة الموقف الذي يواجهه. وتحدث عملية توازن بين الغدة الكظرية والغدة النخامية، بحيث إذا زاد إفراز إحداهما، يقل إفراز الأخرى؛ والعكس صحيح.
ويساعد استخدام الكورتيزون على تقليل حدوث الالتهابات، كما أن له تأثيراً مناعياً، من خلال تأثيره على المناعة الخلوية. كما يؤثر الكورتيزون على عدد كرات الدم البيضاء؛ فبينما يزيد عدد كرات الدم المتعادلة، يقل عدد جميع أنواع كرات الدم البيضاء الأخرى، ويكون هذا التأثير مؤقتاً، إذ يعود العدد إلى معدله الطبيعي بعد 24 ساعة من توقف العلاج. كذلك، يؤثر الكورتيزون على وظائف الخلايا الليمفاوية، فيقل نشاطها. وهو يقلل من عمل الخلايا البالعة، فيصبح المريض أكثر عرضه للإصابة بالميكروبات.
(2) الأدوية المتعلقة بالسم الخلوي Cytotoxic drugs
تُدمّر هذه العقاقير أنواعاً من الخلايا القابلة للانقسام. وللأسف، فإن هذا التأثير لا يقتصر على نوع معين من الخلايا الليمفاوية، ولذلك فإن استعمال هذه العقاقير يؤثر على عمل الجهاز المناعي ككل. وقد تؤثر هذه الأدوية على الخلايا غير الليمفاوية. وهي تستخدم في علاج أمراض الروماتويد والذئبة الحمراء، وأمراض الكبد المزمنة النشطة، والأمراض السرطانية.
(3) السيكلوسبورين Cyclosporin (أُنظر شكل تأثير السيكلوسبورين على المناعة)
يُعد هذا الدواء أهم كشف طبي في مجال زراعة الأعضاء، إذ يؤثر فقط على الخلية الليمفاوية المساعدة، ولا يمتد تأثيره إلى باقي الخلايا الليمفاوية. ومن مزاياه أنه يؤثر على وظيفة الخلية ولا يقتلها، ولذلك فهو العلاج الأمثل في حالات زرع الأعضاء. كما يفضل في حالات زرع النخاع، لأنه لا يؤثر على الخلايا المنقولة.
(4) تنقية البلازما من الأجسام المضادة
يتم ذلك بطريقة معملية خاصة وعلى مراحل، لفصل البلازما من الدم أولاً، ثم وضع البلازما في أنابيب، وتعرضها لسرعات عالية في أجهزة مخصصة لذلك. وهي من الطرق التي تساعد في علاج الأمراض، التي يصحبها ظهور الأجسام المضادة والمركبات المناعية بالدم، كما في حالة أمراض ضعف العضلات، ومرض تليف الرئة، وبعض حالات الروماتويد والروماتيزم، المصحوبة بمضاعفات في الأوعية الدموية، وكذلك في مرض الذئبة الحمراء.
(5) استخدام الأجسام المضادة للخلايا الليمفاوية
قد تكون هذه الأجسام متعددة المصدر، أي تنتجها أنواع كثيرة من الخلايا المناعية؛ أو وحيدة المصدر، أي ينتجها نوعٌ واحدٌ من الخلايا المناعية.
(أ) أجسام مضادة متعددة المصدر
تعمل على تعطيل عمل الخلايا الليمفاوية، كما أنها تقلل عددها. وتستخدم عند رفض الجسم للعضو المنقول، وفى بعض حالات الأنيميا.
(ب) أجسام مضادة وحيدة المصدر
تُحضّر هذه الأجسام للمولدات الموجودة على الخلايا الليمفاوية. وتتميز عن الأجسام السابقة في أنها متخصصة في تأثيرها، وبذلك لا تؤثر على الخلايا الأخرى غير الليمفاوية. وقد تنتج عنها بعض الأعراض الجانبية، مثل تغيير في ضغط الدم وضيق في التنفس وتكوين أجسام مضادة للأجسام المضادة المستخدمة في العلاج، وأعراض تشبه مرض الأنفلونزا.
عاشراً: العلاج المناعي
1. العلاج الجينى
يولد كثير من الأطفال وهم يعانون من أحد الأمراض الموروثة من الأبوين، أو الأجداد، مثل أمراض الهيموفيليا، أو سيولة الدم، والسكر، والشلل الرعاش، وتليف الرئة المتكيس، وأمراض القلب، والذبحة الصدرية، وما إلى ذلك.
وقد أصبح هناك أمل لعلاج هذه الأمراض، التي ربما كانت نتيجة لعيب أو نقص في أحد الجينات، الموجودة على الكروموسومات في نواة كل خلية من خلايا الجسم. ويبلغ عدد هذه الجينات حوالي مائة ألف، موجودة على الحامض النووي للإنسان DNA، الذي يحمل هذه الشفرات الوراثية بترتيب معين.
وليس بالضرورة أن تكون كل هذه الجينات في حالة نشطة، وأن تُعَبِّر عن نفسها بالصفات التي تحملها؛ ولكن العلماء يقدرون نسبة الجينات النشطة المعبِّرة عن نفسها، وتعطى الإنسان كل ما به من صفات، بحوالي 10%، من مجموع الجينات المنقولة من الأبوين. فلو وجد من بين هذه 10% أحد الجينات المعيبة أو الناقصة، فإن ذلك سوف يسبب مرضاً لا علاج له، للجنين المولود.
والجين هو جزء من الحامض النووي، الموجود في نواة الخلية البشرية الحية بتتابع معين من الأحماض الأمينية. ويحتوي جسم الإنسان على حوالي مائة تريليون خلية في أجهزته المختلفة. وتحتوي كل خلية منها على نواة، تحمل بداخلها هذه الشفرات الوراثية، باستثناء كرات الدم الحمراء، التي لا تحتوي على أنويه بداخلها.
وكل جين مسؤول عن تكوين جزء معين في جسم الإنسان، سواء من الناحية التكوينية أو الوظيفية؛ فلو حدث لهذا الجين عيب في ترتيب هذه الأحماض الأمينية، فإن العضو أو الوظيفة، التي سوف يكون بها هذا الجزء من الجسم تصبح ناقصة ومختلة، وسوف يولد الجنين بهذا العيب الخلقي الموروث، وبالمرض الذي لا يمكن إصلاحه، إلاّ إذا أمكن إصلاح هذا الجين المعيب، واستبداله بجين آخر سليم، يحمل الترتيب السليم للأحماض الأمينية، حتى يؤدي الجين وظيفته.
2. العلاج بالمواد المناعية
لعل من أكثر العلاجات المستخدمة، فيما يتعلق بأمراض المناعة والسرطان وغيرها، هي تلك المواد المناعية والموصلات الكيميائية، التي يفرزها الجهاز المناعي نفسه لأداء وظيفته، ويطلق عليها مجتمعة اسم "ليمفوكاينز" أو "سيتوكينز". وهي تحتوي على عديد من المواد المهمة، مثل مادة "إنترفيرون"، ألفا، وبيتا، وجاما. وتستخدم مادة "جاما إنترفيرون" في علاج كثير من حالات السرطان، أما مادة "ألفا إنترفيرون"، فتستخدم في علاج حالات "اللوكيميا"، أو سرطان الدم والغدد الليمفاوية. وهناك ما يقرب من 12 نوعاً، من أنواع السرطان، تتأثر بمادة الإنترفيرون. وثمة توافق وانسجام بين مادة إنترليوكين-2 ومادة إنترفيرون في علاج السرطان، فمادة الإنترفيرون تبرز المستقبلات الموجودة على الخلية السرطانية لمادة الإنترليوكين-2، كي تنقض عليها وتهاجمها وتميزها. وتستخدم مادة الإنترليوكين-2 في علاج كثير من أنواع السرطان، خاصة سرطان الجلد، والكلى. ويعمل كثير من هذه المواد على نضج نمو خلايا الجهاز المناعي، بحيث تزيد مقاومتها للفيروسات، وقدرتها على مواجهة الأمراض، مثل مادة إنترليوكين، التي تنبه الخلايا القاتلة الطبيعية، كي تهاجم الفيروسات والخلايا السرطانية وتقضى عليها. وربما كان الأمل معقوداً على خليط من هذه المواد، لعلاج الكثير من الأمراض السرطانية، أو المستعصية، في الطب حتى الآن.
3. علاج أمراض المناعة الذاتية
ما زال علاج أمراض المناعة الذاتية، قائم على محاولة تثبيط جهاز المناعة ببعض الأدوية، مثل الكورتيزون ومشتقات الذهب. ويحدث تثبيط للجهاز المناعي، عندما تقل الخلايا التائية الليمفاوية المساعدة T-helper cells، وفى الوقت نفسه تزيد الخلايا التائية المثبطة cells T-suppressor، ومن هنا تقل الحالة الحادة للمرض وتخف أعراضه.
وقد أثبتت بعض الأبحاث، التي أجريت على حيوانات تجارب، أن إعطاءها نوع البروتين، الذي يهاجمه الجهاز المناعي من طريق الفم، ينتج عنه تثبيط الجهاز المناعي تجاه هذا النوع من البروتين، ويسمى هذا النوع من العلاج Oral Antigen Therapy. كما أن تناول المولد من طريق الفم Antigen Feeding يوفّر الكثير من التقنيات والاحتياطات، التي يجب أن تؤخذ في الاعتبار قبل استخدام الأجسام المضادة، من طريق الحقن.إِن تناول البروتين من طريق الفم، يثبط جهاز المناعة من خلال طريق معين في خلايا المناعة في الأمعاء، حيث ينبه الخلايا المثبطة، ولا ينبه الخلايا المحفزة أو النشطة، في الوقت الذي لو وصل فيه الأنتيجين أو البروتين نفسه إلى الجسم، من أي طريق آخر بخلاف الفم، فإنه ينشط خلايا الجهاز المناعي ضده ويهيجه، وتهب الخلايا التائية النشطة لتنقض عليه، مسببة أعراض أمراض المناعة الذاتية. ومن خلال علم الهندسة الوراثية، استطاع العلماء تصنيع أجسام مضادة أحادية التفاعل، أي تستطيع أن تتفاعل مع مولد واحد فقط، وذلك لوقف نشاط الخلايا التائية النشطة، فلا تهاجم أهدافها في أنسجة الجسم المختلفة. إنّ ما يحدث في هذه الطريقة من العلاج، هو تماماً عكس ما يحدث في التطعيم؛ ففي التطعيم يُحقن الميكروب كي تنشط خلايا الجهاز المناعي لإنتاج أجسام مضادة تكون مستعدة لمواجهته، إذا دخل إلى الجسم مرة أخرى، بينما هنا يُعطي المولد من طريق الفم، حتى تُنتج خلايا مثبطة تجعل الجهاز المناعي لا يتفاعل ولا يهاجم هذه المادة، إذا دخلت إلى الجسم مرة أخرى.
4. دور التحاليل الطبية في تشخيص أمراض المناعة
للتحاليل الطبية، إلى جانب الفحص الإكلينيكي دور رئيسي في تشخيص أمراض المناعة المختلفة. ونظراً لتطور هذه التحاليل، فقد أصبح من الممكن الكشف عن مواد موجودة بدرجة تركيز صغيرة جداً، وقياسها بوحدات متناهية الصغر. وتشمل هذه المواد بعض الأجسام المناعية، والمواد التي تفرزها الخلايا، مثل السيتوكينز؛ وتشمل، كذلك، الهورمونات ودلالات الأورام وغيرها.
وتتضمن هذه التحاليل:
أ. قياس البروتينات المختلفة، بواسطة الفصل الكهربائي المناعي.
ب. قياس الأجسام المناعية بطريقة الوميض الفلوريسيني، الذي يساعد في تشخيص أغلب الأمراض المناعية الذاتية، مثل الذئبة الحمراء.
ج. قياس الفيروسات والأجسام المناعية الخاصة بها، بواسطة طريقة تسمى إليزا ELISA، وهي التي مكنت من معرفة أنواع الفيروس في الالتهاب الكبدي الوبائي، وغيره من الأمراض الفيروسية.
د. الاختبارات التي تُجرى قبل زراعة الأعضاء، لمعرفة مدى تطابق الخلايا بين المتبرع والمريض حتى لا يحدث رفض للعضو المنقول.
هـ. قياس خلايا الدم المختلفة، مثل الخلايا التائية والبائية، والخلايا الطبيعية القاتلة، والخلايا المساعدة وغيرها من الخلايا. وقد أمكن تحقيق ذلك بواسطة تحضير أجسام مضادة لأي بروتين يراد قياسه، سواء كان على سطح الخلية، أو في الدم، أو البول، عن طريق ما يسمى "البروتين وحيد المصدر". وقد استعملت هذه الطريقة في اختبارات الحمل، حيث يمكن الاستدلال على وجود حمل في الأيام الأولى، التي تعقب التبويض.
و. الطرق المعتمدة على البيولوجيا الجزيئية Molecular Biology، أو التفاعل المضاعف المتسلسل Polymerase Chain Reaction.