الانحراف الاجتماعي
Social Deviancy
يُشير مفهوم الانحراف الاجتماعي، بشكل عام، إلى أنماط الفعل التي لا تمتثل للمعايير والقيم، التي يعتنقها أغلبية أعضاء الجماعة أو المجتمع. ويختلف ما يُعد انحرافاً بذات القدر الذي تتباين به المعايير والقيم، التي تميز الثقافات الفرعية المختلفة عن بعضها. فالعديد من أشكال السلوك التي يُنظر إليها بقدر كبير من التقدير في سياق ما أو من قِبل جماعة ما، قد تُعد سلبية في نظر أبناء جماعة أخرى.
يدل لفظ "انحراف" على مخالفة أي من الأنماط السلوكية السّوية والمرغوبة اجتماعياً (فعلاً أو تركاً)، سواء كانت تلك الرغبة بنص القانون، أو العرف، أو القيم الثقافية السائدة. وهكذا فإن الانحراف من المنظور الاجتماعي هو السلوك المخالف لما ترتضيه الجماعة.
الانحراف هو إتيان أي فعل لا تقبله النسبة الغالبة من أفراد الجماعة، ويشمل الانحرافات القانونية وغير القانونية. والسبب في الأخذ بالانحرافات غير القانونية هو أن العادات والأعراف والتقاليد والقيم الأخلاقية، قد يزداد الاهتمام ببعض منها؛ فترقى إلى مستوى القانون، ويبقى بعضها الآخر دون ذلك. وقد تكون السلوكيات المنحرفة بنص القانون أفعالاً خطيرة على أمن الجماعة، وعلى حياة وأعراض أفرادها أو مقدساتهم ومكتسباتهم ومستقبلهم أو تطلعهم العام، ما يتطلب شجب هذه الأفعال ومكافحتها. فالأمر، إذاً، يتعلق بأفراد الجماعة ومعتقداتهم ووجهة نظرهم للأنماط السلوكية غير السوية، وما يجب أن يُجرّم منها بنص القانون.
يشير السلوك المنحرف، إذاً، إلى الخروج أو الانحراف عن المعايير الاجتماعية السائدة في المجتمع. ويوضح روبرت ميرتون أن مفهوم السلوك المنحرف في أساسه يُعد -إلى حد كبير- مفهوماً أخلاقياً، كما أنه يُستخدم في اللغة اليومية للإشارة إلى ما يُعرف بالسلوك السيئ، بصفة عامة. كما يُشير ميرتون إلى نمطين أساسيين من السلوك المنحرف، هما: السلوك اللاتوافقي Nonconforming، والسلوك المنحرف Deviant Behavior ، ويميز بينهما على النحو الآتي:
1. الأفراد غير المتوافقين تتخذ معارضتهم –عادة- صفة العلانية، على حين أن المنحرفين يحاولون –عادة- إخفاء انحرافاتهم؛ فالمعارضون السياسيون يظهرون معارضتهم للنظام السياسي علانية، بينما مرتكبو الجرائم يمارسون سلوكهم في الخفاء.
2. بينما يمثل سلوك غير المتوافقين تحدياً لشرعية المعايير الاجتماعية التي يعارضونها ويرفضونها، فإن المنحرفين ينتهكون المعايير التي يعترفون بها؛ فيحاول المنحرفون تبرير سلوكهم المنحرف، ولكنهم لا يجادلون في أن السرقة انحراف والقتل خطيئة.
3. يسعى غير المتوافقين إلى تحقيق هدف أساسي يتمثل في تغيير المعايير الاجتماعية القائمة، وإحلال معايير أخرى محلها يرون أنها أفضل من المعايير القائمة. في حين أن المنحرفين لا يشغلهم سوى كيفية الهروب من العقوبات المرتبطة بمخالفة المعايير الاجتماعية القائمة بالفعل.
4. يسعى غير المتوافقين إلى تحقيق العدالة في الواقع الاجتماعي، من خلال محاولتهم تغيير البناء الاجتماعي؛ لكن المنحرفين لا يكون لديهم شيئاً جديداً يقدمونه، لأنهم يسعون إلى التعبير عن مصالحهم الخاصة وإشباع حاجاتهم الشخصية.
وبناءً على ذلك ينطبق الانحراف الاجتماعي على أي سلوك لا يكون متوافقاً مع التوقعات والمعايير المقبولة داخل النسق الاجتماعي، والتي يشارك فيها الشخص بقية أعضاء المجتمع.
وقد اهتم علماء الاجتماع بتحديد الفروق المرتبطة بالتسامح Tolerance، مع أنماط معينة من انتهاك المعايير. ومما لا شك فيه أن جميع ألوان الانحراف عن المعايير الاجتماعية تواجه بالرفض والمعارضة من المجتمع، وتتفاوت شدة المعارضة والرفض فتبدأ بأبسطها وتنتهي بأشدها، وذلك على متصل الرفض ـ الذي يعكسه رد فعل المجتمع للانحراف ـ الذي يمكن توضيحه على النحو الآتي:
إن كل مستوى من مستويات هذا التصنيف للانحراف عن المعايير الاجتماعية ـ والتي تعكس مستويات معينة من الخطورة ـ ينطوي على مستويات داخلة فيه، من حيث درجة الشدة، ويرتبط كل منها بصورة معينة من صور الأفعال الانحرافية.
وتتضمن النظرة المتكاملة للانحراف أنماطاً أربعة، هي:
1. انحراف الفرد عن الأهداف العامة للمجتمع، أي أن تحديده لأهدافه الذاتية ـ على المستويين القريب والبعيد ـ تم بمعزل عن تطلعات المجتمع وأهدافه.
2. انحراف الفرد عن الوسائل السوية والسلوكيات الأخلاقية التي تستخدم لتحقيق الغايات. وفي هذه الحالة قد يسير المنحرف بمبدأ "الغاية تبرر الوسيلة".
3. انحراف الفرد عن الأهداف والوسائل؛ فالأهداف قد تكون غير مشروعة، وكذلك وسائل تحقيقها غير مقبولة قانونياً واجتماعياً وأخلاقياً لدى المجتمع.
4. التطبيق الخاطئ والمسايرة الجامدة المفرطة للأهداف والوسائل، ما يجعل الفرد يخرج عن التوقعات المشتركة.
نسبية الانحراف الاجتماعي
الانحراف من الوقائع الاجتماعية التي لازمت المجتمعات البشرية منذ أقدم العصور. والانحراف ليس شيئاً مطلقاً، بمعنى أنه يدل على فعل ثابت له أوصاف محددة؛ ولكنه نسبي تحدده عوامل كثيرة منها الزمان والمكان والثقافة. فقد كانت بعض الأفعال في الماضي لا تُعد انحرافاً؛ ولكنها أصبحت انحرافاً في المجتمع المعاصر، يُحقر مرتكبوها ويُعاقب عليها القانون.
إن الانحراف في العصر الحاضر قد يختلف معناه في مجتمع عنه في مجتمع آخر، نظراً لاختلاف المجتمعات في عناصر ثقافتها وحضارتها. وعلى الرغم من أن الانحراف ظاهرة اجتماعية موجودة في كل المجتمعات الإنسانية، سواء كانت بدائية أم متطورة، قديمة أم حديثة، متخلفة أم متقدمة، فإن ما نتناوله من أنماط النشاط ليس واحداً في الزمان والمكان، ما دام أساس الانحراف تابعاً لوجهة نظر المجتمع في زمان ما أو مكان ما، ومن ثم فإن ما يجعل الفعل منحرفاً ليس الفعل في ذاته ولذاته، بل نظرة مجتمع بذاته إليه.
فالمجتمع هو الذي يحدد ما هو خطأ وما هو صواب، وهو الذي يقرر ما إذا كان فعلاً معيناً يشكل انحرافاً أم لا. ولمّا كانت المجتمعات تختلف من حيث بنائها وتاريخها وثقافاتها، فإنها تختلف في فهمها وفي تقديرها للخطأ والصواب. ولمّا كانت قيم واتجاهات المجتمع تتغير وتتطور على مر الزمان، فقد استتبع ذلك أن يكون الانحراف نسبياً. فقد يَعُد مجتمع فعلاً معيناً في فترة ما انحرافاً، ثم يبيحه فيما بعد. ومن أبرز الأمثلة على ذلك تعاطي الخمور والاتجار فيها، فقد تردد ما بين الإباحة والتحريم عدة مرات في الولايات المتحدة الأمريكية خلال المائة عام الأخيرة.
والانحراف ليس نسبياً إلى الثقافات العامة فحسب، بل إنه نسبي، أيضاً، للثقافات الفرعية Sub-Cultures داخل المجتمع الواحد نفسه؛ فمثلاً الأخذ بالثأر في صعيد مصر يُعد ذا قيمة كبيرة وعرفاً سائداً، إلا أنه في نظر الثقافة العامة للمجتمع المصري وللتشريع المصري هو انحراف وجريمة لا تغتفر. وهناك من الانحرافات ما تُعد أحياناً جناية، وأحياناً أخرى جنحة، حسب الثقافة الفرعية التي تتأثر بتقاليد وعادات معينة؛ فالسطو في بعض البلدان العربية إذا وقع ليلاً يُعد جناية؛ لأنه حدث ليلاً ما يجعل الضرر أكبر مقارنة بما عليه الحال في وضح النهار. لذلك يُعد السطو نهاراً جنحة لأن الضرر يكون أقل.