"الحليف الأسوأ".. وسقوط "صفقة القرن"
جمال طه
ما بين حديث «ترامب» عن الكيمياء التى تجمعه بالسيد الرئيس «أبريل 2017»، وما تلاه من سياسات عدائية، بون شاسع.. «ترامب» يفتقر للخبرة السياسية، وسلوكياته تتسم بالرعونة، لذلك يستحيل الرهان عليه.. اللوبى المضاد استغل تورطه فى قضية التعاون مع روسيا خلال الحملة الانتخابية، وتهديده بالمحاكمة، لتغيير رؤيته لمسار العلاقات مع مصر، ما فجر الخلافات داخل مؤسسات السلطة؛ البنتاجون والمخابرات المركزية يتمسكان بالشراكة الاستراتيجية مع القاهرة، «الخارجية»، مدفوعة باللوبى المؤيد للإخوان بالكونجرس، تتعلل بقضايا على رأسها حقوق الإنسان، لتنسف العلاقات، وللأسف فإن تحركات الإخوان وقطر فى أمريكا تتفوق على تحركات الدولة المصرية، وهو أمر يفرض الكثير من المراجعة والتصحيح.
قرار «ترامب» الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية إليها دفع مصر لتقديم مشروع قرار لمجلس الأمن يستهدف إبطاله، ويدعو إلى الامتناع عن إقامة بعثات دبلوماسية فى القدس، القاهرة كانت على ثقة بأن أمريكا ستبطله بحق الفيتو، رغم نجاحها فى حشد كل أعضاء المجلس «14 صوتاً من 15»، ولكنها خطوة ضرورية للانتقال بالتصويت إلى الجمعية العامة، النتيجة جاءت فى نفس السياق؛ 128 دولة ضد أمريكا، لم يؤيدها سوى إسرائيل، والدولتين الأصغر فى أمريكا اللاتينية «جواتيمالا - هندوراس»، والأصغر فى أفريقيا «توجو»، وأربع جزر ميكروسكوبية بالمحيط الهادئ «مارشال - ميكرونيسيا - ناورو - بالاو».. التحفظ الوحيد على قرار الجمعية العامة أنه منح اليمن ممثلة الكتلة العربية، وأردوغان عن منظمة التعاون الإسلامى، شرف تبنى القرار، وكانت مصر الأحق به.. واشنطن اكتشفت فجأة أن مصر «حليف سيئ»، ومصر، فى تقديرى، تأكدت أن أمريكا «الحليف الأسوأ».. تخون الأمانة، وتطعن الصديق.. ولنستعرض السياق..
«ترامب» أصدر قراره الخاص بالقدس «6 ديسمبر»، مصر شرعت فوراً فى التشاور حول مشروع قرارها لمجلس الأمن، «داعش» توعدت أمريكا بشن هجمات انتقامية رداً على قرار «ترامب» يوم «14 ديسمبر»، نيكى هايلى، مندوبة أمريكا، اعتبرت نتيجة التصويت فى مجلس الأمن «إهانة لن ننساها أبداً»، 18 ديسمبر، وخرجت «نيويورك تايمز»، «19 ديسمبر»، تصف مصر بـ«الحليف السيئ»، وفى اليوم نفسه استُهدفت طائرة وزيرى الدفاع والداخلية بمجرد هبوطها بمطار العريش، العملية تطور نوعى فى السلاح، ودقة التصويب، والدعم المعلوماتى، المعتمد على وسائل اتصالات متطورة.. أداء مخابراتى واضح، يستحيل عدم الربط بينه وبين تهديدات السفيرة الأمريكية الصريحة لمصر، وما أعقبها من تهديد «ترامب» لمن يؤيد قرار الجمعية العامة.. قلناها ونكررها «مصر فى حرب، لمَ لا تصدقون؟!».
مقال «نيويورك تايمز» دعا لإعادة النظر فى الشراكة الاستراتيجية مع مصر، أهميته تنبع من وضعية كاتبيه، أحدهما «آندرو ميلر»، محلل الوضع المصرى بوزارة الخارجية، ومدير سابق للملف المصرى بمجلس الأمن القومى، والآخر «ريتشارد سوكلسكى»، باحث بمؤسسة كارنيجى للسلام.. المقال استعرض جوانب التناقض فى المصالح الاستراتيجية بين الدولتين: رفض القاهرة الاستجابة لرغبة واشنطن تحويل الجيش المصرى إلى قوات لمكافحة الإرهاب.. اتفاقها مع روسيا على الاستخدام المتبادل للقواعد الجوية.. تحفظ أمريكا على توطين مصر للتصنيع الحربى محلياً.. الدعم المصرى لـ«حفتر».. تعارض مواقف القاهرة بمجلس الأمن حول سوريا وفلسطين وإسرائيل مع المواقف الأمريكية.. هى إذاً شكوى من اتباع مصر سياسة ديناميكية مستقلة تتعارض مع مسار التبعية الذى تنشده واشنطن، بما لا يتفق وادعاء المقال بأن «التآكل الداخلى» أفقد مصر ثقلها الإقليمى، وإلا ما كان كل هذا «الندب واللطم» من الانعكاسات الاستراتيجية للاتفاق المصرى الروسى.. فقد أفقد واشنطن رخصة استخدام المجال الجوى المصرى، وامتيازات المرور بالقناة، ومنحها لروسيا، فأحدث اختلالاً جسيماً فى التوازن الاستراتيجى، وأجهض كل مخططات العبث بالمنطقة، ووفر أدوات دعم تسمح بسرعة استكمال عمليات التعبئة لتوجيه ضربة قاصمة تنهى وجود الجماعات الإرهابية فى سيناء، وتسقط مبررات التعلل بعدم قدرة مصر على حمايتها لفرض إشراف دولى يسمح بتمرير المشروعات المشبوهة، ما يفسر تراجع «ترامب» المخزى عن «صفقة القرن».. إنها مصر يا سادة!!.
مصر بصدد إحداث تغيُر استراتيجى بالمنطقة، أمريكا سعت لإسقاط النظام عقب الإطاحة بالإخوان، زيارات «السيسى» لموسكو، فبراير وأغسطس 2014، ومايو 2015، كانت البداية، إذ أنهت خزعبلات القوة المتمثلة فى تهديدات الأسطول السادس، وعززت التوازن الإقليمى.. روسيا واجهت الحصار الغربى نتيجة للأزمة الأوكرانية بالتدخل العسكرى فى سوريا، وتعزيز قواعدها، ففرضت نفسها كرقم رئيسى فى التسوية، وهكذا السياسة، لن تستطيع تجاوز دائرة الحصار إلا بالقفز على حدودها.. مصر نوّعت مصادر التسليح وتمكنت من الحصول على أسلحة استراتيجية «حاملتى الميسترال، طائرات الرافال، وإعادة التموين الجوى، والقيادة والسيطرة والإنذار المبكر..»، لكنها على المستوى الاستراتيجى حاولت إمساك العصا من المنتصف، ما حال دون الاستفادة من الثقل الروسى، وظلت معرضة للتهديد، سواء بوسائل ضغط محلية على نحو إيقاف «أرامكو» تنفيذ عقد إمداد مصر بالبترول، أو بفعل التنظيمات المسلحة فى سيناء، وتعاونها مع جماعات قبلية، ولم تخل سياساتها من بعض التناقض، فقد أيدت التدخل العسكرى الروسى فى سوريا، مثلما أيدت ضرب أمريكا لقاعدة الشعيرات!!، مثال لـ«ميوعة» القرار، والحرص على إرضاء كل الأطراف، وهو اختيار يأخذ منا، ولا يعطى. أمريكا فقدت هيمنتها على المنطقة، فلا داعى للتردد، إنهاء الحرب السورية، دون سقوط «الأسد»، جاء نتاج للدعم الروسى، إنهاء الحرب العراقية أنجزه الجيش العراقى بدعم إيرانى، مساهمات أمريكا محدودة، وذات طابع طائفى، لحساب الأكراد، وضد الشيعة، انسحابها من المنطقة قرار استراتيجى، لتتفرغ للمحيط الهادئ، حيث يتمدد التنين الصينى، تأخرها فى التنفيذ يرجع إلى ارتباك بعض مخططاتها الخاصة بالتفتيت الطائفى لدول المنطقة، وتدمير مبانيها ومنشآتها، وتشريد شعوبها، لتتحول إلى تجمعات بدائية، تتوسطها جزيرة من التطور والحداثة عاصمتها القدس المغتصبة.. أمنت شر الجميع، وباتت قادرة على ابتلاع المنطقة.
ليس عيباً أن نتعلم من أعدائنا.. تركيا تقدم نموذجاً فى حسن تقدير الموقف، ودقة تحديد الأهداف، وشمول الرؤية الاستراتيجية، أدركت أن المخابرات الأمريكية سعت لتوريطها فى إسقاط الطائرة الحربية الروسية «Su-24» نوفمبر 2015، ومحاولة انقلاب يوليو 2016، واغتيال السفير الروسى ديسمبر 2016، قدرت الموقف جيداً، ولم تتهور مع موسكو، وإنما وظفت تلك الأحداث لتفرض متغيرات جديدة، تلزم الروس، وهم بصدد وضع ترتيبات ما بعد انتهاء الحرب السورية، أن يعطوا لها وضعها كشريك إقليمى، ما يفسر مشاركتها لموسكو وطهران فى ترتيبات أستانة، والضمانات الخاصة بالمناطق الآمنة.. عضو الناتو، وحليف أمريكا، تحول إلى حليف رئيسى لروسيا، وأقرب لها من الحلف ومن واشنطن.. هكذا تكون السياسة.
قد يتساءل البعض، وكيف نتخلى عن المعونة الأمريكية؟.. ذلك موضوع آخر موعده الجمعة المقبل إن شاء الله.
عن الوطن المصرية