لماذا استمرار التَّصلُّب العربي الرسمي تجاه حماس والمقاومة؟!
بعد نحو ثمانية أشهر على معركة طوفان الأقصى والحرب الوحشية الإسرائيلية على قطاع غزة، وبعد استمرار
حالة “الطوفان” وتداعياتها الهائلة فلسطينيا وإقليميا ودوليا، أمَا آن للموقف العربي الرسمي أن يخرج من جموده
وبروده ولا مبالاته وخذلانه؟!!
ربما كان السؤال غريبا، لأن “الضَّرب في الميت حرام”!! ولأن نوم البعض “عبادة”!! غير أن السؤال مرتبط
بمحاولة فهم السلوك الرسمي، وليس تبريره ولا حتى تغييره!!
في المراحل الأولى للمعركة والعدوان، كانت القراءة الموضوعية تشير إلى سخط المنظومة الرسمية العربية “
المعتدلة” على حماس، بسبب “إفسادها” مسار التسوية السلمية ومسار التطبيع الذي تلقى ضربة قاسية؛ وبسبب
رغبة لم يُخْفها العديد من القادة والشخصيات العرب، عندما تحدثوا مع مسؤولين أمريكان أو غربيين بالقضاء
على حماس، وإنهاء حكمها في قطاع غزة، وترافق ذلك مع انتقاد حاد لحماس من دول مُطبّعة كالإمارات
والبحرين، وانعقد مؤتمر قمة عربي إسلامي متأخرا، شابه البرود وفقدان المحتوى والأثر، كما حافظت الدول
المُطبعة على علاقاتها السياسية بالكيان، بالرغم من انخفاض وتيرة التطبيع؛ بل إن بعضها وفّر للكيان الإسرائيلي
شريانا اقتصاديا تجاريا بريّا بديلا (من الإمارات وحتى فلسطين المحتلة)، ليتجاوز قطع أنصار الله (الحوثيين)
لخطوط الإمداد الإسرائيلية عبر البحر الأحمر.
ولكن، ألم تظهر مجموعة من المعطيات المهمة تستدعي من الأنظمة العربية قراءة المشهد وإعادة النظر في
حساباتها؛ قبل أن تجد نفسها قد سبقتها الأحداث وتجاوزها التاريخ؟!
من أبرز هذه المعطيات:
1- الأداء الاستثنائي الأسطوري للمقاومة الفلسطينية، على مدى 230 يوما، واستمرار أدائها القوي الفعال، مع
القدرة على إحداث خسائر كبيرة في الجانب الإسرائيلي، والقدرة على الاستمرار في المقاومة لفترات طويلة
قادمة، ووصول معظم الخبراء والمحللين والقادة الأمريكيين والغربيين والإسرائيليين إلى قناعة باستحالة القضاء
على حماس.
2- استمرار التفاف الحاضنة الشعبية حول حماس والمقاومة، وتمتعها بأغلبية شعبية واسعة فلسطينية في الداخل
والخارج؛ مع تزايد شعبيتها عربيا وإسلاميا ودوليا؛ وفشل كل محاولات شيطنة المقاومة، وفصلها عن حاضنتها
الشعبية.
3- فشل “إسرائيل” الذريع في تحقيق أهدافها من الحرب، سواء في سحق حماس أم تحرير “الرهائن” أم احتلال
القطاع أم فرض سلطة بديلة أو عميلة في القطاع، وتزايد القناعات إسرائيليا وأمريكيا وعالميا بعدم إمكانية عمل
أي ترتيبات في القطاع دون التفاهم مع حماس.
4- فشل الولايات المتحدة وحلفائها في إدارة المعركة لصالح الكيان الإسرائيلي، وتضرُّر صورة الولايات المتحدة
نفسها، وتحوّل الكيان الإسرائيلي إلى عبء كبير يُثقل كاهلها داخليا وخارجيا، وهو فشل يعطي رسالة إلى الأنظمة
العربية، بعدم المراهنة على “السيّد الأمريكي” الذي تدلّ التجارب على مدى فشله وخذلانه وأنانيته وبراغماتيته.
5- الإنجازات الهائلة التي حققتها المقاومة طوال الأشهر الماضية، خصوصا في إسقاط النظرية الأمنية
الإسرائيلية، وضرب فكرة الملاذ الآمن لليهود الصهاينة في فلسطين المحتلة، وضرب فكرة شرطي المنطقة،
وإثبات إمكانية هزيمة الكيان الإسرائيلي، وحالة الإلهام الهائلة التي أشعلتها المقاومة في الأمة.
وفوق ذلك، فقد قدمت المقاومة سلوكا سياسيا اتسم بالكفاءة والفاعلية والمسؤولية والواقعية، والحرص على
الوحدة الوطنية، وترتيب البيت الفلسطيني وفق المصالح العليا للشعب الفلسطيني، واحترام إرادته الحرة. وعضّت
على جراحها بالرغم من معاناتها من ذوي القربى، وتجاوزت حملات التحريض والتخذيل، وفرضت احترامها على
الجميع.
6- الأزمة الداخلية الهائلة التي يعيشها الكيان الإسرائيلي سياسيا وأمنيا وعسكريا واقتصاديا، وتزايد عناصر
الصراع الداخلي في أحشائه.
7- التقدم الهائل الذي أحرزته قضية فلسطين على المستوى العالمي، وتصاعد التعاطف والتأييد الشعبي والرسمي
الدولي مع فلسطين والمقاومة، وانكشاف الوجه البشع للكيان الصهيوني، وسقوط كل جدلياته وأدواته لتسويق
نفسه (واحة ديموقراطية، الهولوكوست، العداء للسامية)، وتحوّله إلى كيان معزول منبوذ عالميا. ودخول الكيان
لأول مرة في تاريخه تحت مطرقة “محكمة العدل الدولية”، و”محكمة الجنايات الدولية”، وتحوّل الجامعات
العالمية إلى معاقل داعمة لفلسطين.
8. تغيير العديد من الأنظمة لسلوكها تجاه الاحتلال الإسرائيلي مقارنة ببداية العدوان على القطاع؛ فهناك دول
قطعت علاقاتها بالكيان، أو سحبت سفراءها أو حتى شاركت في الانضمام لمحكمة العدل الدولية ضد الكيان،
وهناك دول أوروبية اعترفت بدولة فلسطين، ودول أوروبية أوقفت بيع الأسلحة للكيان.
ودونما إطالة في سرد النقاط، فإن هناك ما يستحق إعادة النظر لدى المنظومة العربية، وسيكون تقديرا كارثيا
الاستمرار بالتفكير التقليدي نفسه، و”الاطمئنان” على قدرة الإسرائيليين والأمريكان في “سحق” المقاومة.
* * *
من ناحية أخرى، وبشكل عام، فالمشهد العربي الرسمي “المعتدل” غير مؤهل للقيام بتغييرات حقيقية، وسيستمر
في “التثاؤب” طالما لم تدخل النار بيت أحدهم. ويرجع ذلك إلى:
– الانغلاق المقيت على الهموم القطرية، والمصالح الخاصة، وغياب المصالح القومية وقضايا الأمة عن صناعة
القرار.
– استمرار المراهنة على الهيمنة الأمريكية على المنطقة، وعلى قدرة الاحتلال الإسرائيلي (ولو متأخرا) في
التعامل مع حماس، وإعادة ترتيب الأوضاع في قطاع غزة.
– استمرار المراهنة على مسار التسوية وعلى السلطة الفلسطينية.
– عدم استيعاب الهزة الكبرى التي أحدثها طوفان الأقصى، وعدم القدرة على ملاحظة الفرص التي أوجدتها؛
خصوصا أن هذا النوع من الحكام لا يصلح للاستفادة من فرص كهذه!! وكذلك بسبب الطبيعة الوظيفية والسقف
المحدود للأنظمة القطرية.
– فقدان الرؤية، وعدم توفر أي رؤى حضارية ووحدوية ونهضوية، للانعتاق من الهيمنة الأمريكية والغربية.
– حالة العداء للإسلاميين، والخوف من حركات النهضة والتغيير، والخوف مما يحمله مشروع حماس الإسلامي
المقاوم، وانعكاساته على المنطقة.
* * *
ربما ستسعى الأنظمة الرسمية للاستمرار في إدارة الحد الأدنى والانتظار حتى انجلاء غبار المعركة، غير أن
استمرار الوحشية الصهيونية، واستمرار الكارثة الإنسانية في فلسطين، مع استمرار المقاومة، وازدياد التفاعل
العالمي، كلها ستكون عناصر تغيير وتثوير واستنهاض وغضب في البيئة الشعبية العربية، ولا يمكن للأنظمة
الاستمرار في المراهنة على قبضتها الحديدية، ولا على وسائل الإلهاء، ولا على أدوات تشويه المقاومة؛ فالخبرة
التاريخية في المنطقة تؤكد حدوث التغيرات المفاجئة، وصعود موجات تقلب الطاولات كما تقلب الحسابات كافة